المعاملات الاقتصادية للحركات الإسلامية المتطرفة السلمية

سبق لنا في هذا المكان نفسه أن تعرضنا للطريقة التي تنظر وتتصرف بها الحركات الإسلامية بمختلف أنواعها مع القضايا الاقتصادية، وقد أفردنا مقالات خاصة لتنظيم وشبكة القاعدة نظراً للأهمية الدولية التي يتمتعان بها خلال السنوات الأخيرة. وهذه المرة سوف نتعرض للرؤية والممارسة الاقتصادية لواحدة ممن فئات الحركات الإسلامية وهي تلك التي نطلق عليها الحركات الإسلامية المتطرفة السلمية. وهذه النوعية من الحركات تنتمي إلى الحركات الدينية التي تقوم على قراءة معينة للإسلام والنصوص القرآنية الكريمة تنظر من خلالها إلى الأفراد والمجتمعات والدول من منظور صحة العقيدة فقط، في حين لا تلقى اهتماماً يذكر إلى ما هو دون ذلك من مستويات ومصادر فقهية وشرعية. والقضية الرئيسية وربما الوحيدة بالنسبة إلى تلك الحركات هي إقامة التوحيد والعبودية الحقة لله كما تراهما، وبالتالي فإن حقيقة الإيمان بالنسبة إلى الأفراد والمجتمعات والدول يظل بالنسبة إليلها المبحث الوحيد الذي تتحرك ضمنه أفكار وأفعال تلك الفئة من الجماعات.
وتظهر فئة الحركات المتطرفة السلمية ضمن تلك النوعية من الحركات الدينية لكي تتفق معاً على أن المجتمعات المعاصرة في حالة أقرب لحالة المجتمع الجاهلي والكافر في مكة بعد البعثة النبوية وقبل الهجرة منها إلى المدينة، وهو ما يعني بالنسبة إليها أن المجتمعات والدول والأفراد المعاصرين في مختلف بلدان العالم الإسلامي إنما هم إما كفار وإما في أحسن تقدير يعيشون في جاهلية تامة تشبه تلك التي كانت تخيم على مكة والجزيرة العربية عموماً قبل الهجرة. كذلك فبالقياس نفسه فتلك الحركات ترى أن الوقت لم يحن بعد للعمل بالسياسة أو بناء دولة إسلامية أو ممارسة القتال – أو الجهاد حسب مصطلحهم – حيث إن كل ذلك لم يؤمر به المسلمون قليلو العدد والحيلة في مكة. أما عندما يطرح التساؤل بداخل تلك الحركات حول طريقة التعامل مع هؤلاء الأفراد والدول والمجتمعات، فإنهم ينقسمون بناءً على إجابته إلى قسمين رئيسين: الأول يمكن تسميتهم بحركات التكفير والهجرة، والثاني بحركات إعادة الدعوة. ويرتبط بذلك الانقسام في طريقة التعامل مع المجتمعات المعاصرة انقسام آخر في طريقة التعامل مع مختلف قضايا المعاملات الاقتصادية وموضعها في الممارسات العملية لهذين القسمين من الحركات الإسلامية الدينية المتطرفة السلمية.
يضم القسم الأول كل الجماعات والحركات والمجموعات التي اصطلح إعلامياً على إطلاق اسم التكفير والهجرة عليها، وهي ترى أن المجتمعات المعاصرة تشبه مجتمع مكة قبل الهجرة مباشرة، حيث لم يعد فيها من أمل أن تهتدي للإسلام ولم تعد تضم سوى الكافرين فقط وبالتالي لابد لهم من هجرها بصورة أو بأخرى، حيث إنهم يمثلون المسلمين الوحيدين على وجه الأرض ومن سواهم ولم ينضم إليهم فهو كافر كفراً بواحاً. والهجرة بالنسبة إليهم، سواء كانت داخل المجتمع باعتزاله تماماً والانفصال عنه كلية أو بالخروج منه إلى الصحارى والمناطق البعيدة، إنما هي على غرار الهجرة النبوية ليست سوى مرحلة انتظار مؤقتة لأن يظهر الله دينه ويعودوا إلى ذلك المجتمع منتصرين.
وفي ممارساتها العملية الحياتية، فإن انسحاب تلك الحركات الشعوري – الروحي أو الجسدي – المادي من المجتمعات المعاصرة وإدانتها لكل ما يوجد بها من أبنية وعلاقات وممارسات اجتماعية وسياسة واقتصادية يدفع بها إلى بناء مجتمعاتها الخاصة الصغيرة المغلقة التي تقتصر على أعضائها المؤمنين بأفكارها وتنفصل تماماً عن المجتمعات الأكبر التي توجد بها. وفي تلمسها تجنب كل ما يمكن أن يفسد على أعضائها حالة الإيمان التي تميزهم عن تلك المجتمعات الكبيرة الكافرة، لا ينخرط أعضاؤها في أي أعمال أو أنشطة اقتصادية ذات علاقة بالدولة أو بالهيئات والشركات والمؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة التي تجسد جميعها ممارسات الكفر في تقديرهم، ويعتمدون في حياتهم على نوعين من الممارسات الاقتصادية: الأول يقوم به أعضاء الحركات التي تواصل البقاء بداخل المجتمعات الأكبر مادياً وجسدياً ولكنها تنفصل عنها شعوريا وروحياً، حيث يتعيشون من أنشطة التجارة الصغيرة المتجولة الهامشية التي تعتمد على رؤوس أموال ضعيفة للغاية أو من الزراعة العائلية لقطع محدودة من الأراضي الصالحة للزراعة. أما الحركات التي تهجر المجتمعات الأكبر إلى المناطق الزراعية أو الصحراوية المنعزلة، فإن أعضاءها يعتمدون في معيشتهم على الاقتصاد العائلي البدائي سواء كان زراعياً أو رعوياً. وفي الحالتين، فإن ما يحكم ويؤدي إلى هامشية الأنشطة الاقتصادية لتلك النوعية من الحركات هو من ناحية تجنبها لأي شبهة تداخل مع المجتمعات المحيطة بهم التي يعتقدون في كفرها بكل ما فيها من أبنية وعلاقات اجتماعية ووسائل إنتاج وحياة عصرية، ومن ناحية ثانية زهد أعضائها الشديد في كماليات الحياة بل وأحياناً في أساسياتها، حيث يعتبرون ذلك جزءاً عضوياً من إيمانهم الحقيقي. وتظهر نماذج تلك النوعية من الحركات واضحة للعيان في كثير من البلدان خلال الأعوام الـ 30 الأخيرة مثل مصر، الجزائر، واليمن وغيرها.
يضم القسم الثاني كل الجماعات والحركات التي ترى أن المجتمعات المعاصرة تشبه مجتمع مكة بعد البعثة النبوية، حيث إن دعوة – أو بعبارة أدق إعادة دعوة - الناس الموجودين فيها الذين يجهلون الإسلام كما كان الكافرون في مكة يجهلونه تعد المهمة الوحيدة التي يجب عليهم القيام بها كما فعل المسلمون الأوائل. ويمثل التبليغ والدعوة إلى تعاليم الإسلام الأساسية وأركانه وعباداته الطريقة الوحيدة لهذه الجماعات في التعامل مع تلك المجتمعات المعاصرة الجاهلية أو الكافرة - حسب رؤيتهم - دون اعتزالها أو الهجرة منها أو الاصطدام العنيف معها.
وتختلف حركات إعادة الدعوة عن حركات التكفير والهجرة في سلوكها الاقتصادي العملي بحكم اختلاف منهجها في التعامل مع المجتمعات المعاصرة، حيث يتحرك أعضاء تلك الحركات عادة في مجموعات تجول في المدن والقرى من أجل إعادة دعوة الناس إلى الإسلام. وتتخذ تلك المجموعات عادة من المساجد الرئيسية والكبرى في تلك القرى والمدن مقرا لإقامتها والانطلاق منها للتجول في الأسواق ومناطق التجمعات للقيام بتلك الدعوة. ومن المعتاد أثناء تلك الجولات أن يحمل أعضاء تلك المجموعات معهم ما يكفيهم من طعام وشراب ومن أدوات لتجهيزهما يحدهم في ذلك قواعد في الزهد أقل صرامة من تلك التي تحد سلوك أعضاء حركات التكفير والهجرة. ومن الملاحظ أن تلك المجموعات الجوالة من أعضاء حركات إعادة الدعوة توسع من دائرة حركتها إلى حد الذهاب إلى بلدان أخرى غير بلدانها الأصلية، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن تمويلها. والحقيقة أن أعضاء تلك الجماعات لا يعتزلون الأنشطة الاقتصادية والوظائف والمهن التي يقومون بها في مجتمعاتهم الأكبر، بل يواصلون ممارستها ويقيمون في أحيان كثيرة مؤسسات وشركات اقتصادية صغيرة ومتوسطة خاصة بهم، على أن يتم تحويل حصص كبيرة من دخول وريع تلك الأنشطة لصالح الحركة أو الجماعة، حيث يتم توجيهها واستخدامها في تمويل أنشطتها. وتبدو هياكل وممارسات مختلف جماعات "التبليغ والدعوة" سواء في الدول الآسيوية – حيث نشأت – مثل باكستان والهند، أو في الدول العربية مثل مصر، أو في الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا، متطابقة تماماً مع تلك الخصائص الحركية والاقتصادية لهذه النوعية الثانية من الحركات الإسلامية المتطرفة السلمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي