Author

البيروقراطية والاستثمارات الأجنبية

|
للبيروقراطية عدة معان, فهي تعني من الناحية السوسيولوجية: تنظيم ذكي ورشيد للأجهزة والمنظمات الإدارية قائم على مبادئ أساسية أهمها التدرج في السلطات وعدم التحيز والخضوع للرقابة. وتعني لدى العامة: البطء في التصرف, وثقل ردة الفعل, وتعقيد الإجراءات, وعدم ملاءمة التنظيمات لحاجات المراجعين, وتغليب الروتين الإداري, وعدم اكتراث البيروقراطيين بمصالح المجتمع والمواطنين ومحاولتهم إظهار أهميتهم, فكلما تعقدت الإجراءات كان ذلك دليلا على أهمية الموظف المختص بالإجراء, وهذا من شأنه أن يزيد لديه الإحساس بالأهمية فيبالغ في التعقيد. وقد رأى بعض الاقتصاديين, في إطار انشغالهم ببحث قضية تخصيص الموارد, أن للبيروقراطية تأثيرها الفعال في الكفاءة الاقتصادية خاصة في الدول النامية, ذلك أن الإغراق في التمسك بحرفية القرارات التي تتخذها الأجهزة الإدارية وعدم مرونتها قد يؤديان غالبا إلى نتائج عكسية. لهذا يرى بعض الاقتصاديين أن تضخم النظام البيروقراطي يشكل عقبة رئيسة في سبيل تطوير الكفاءة الاقتصادية. فالسلوك البيروقراطي يرتب آثاراً سلبية على الكفاءة الاقتصادية التخصصية التي تعني قيام أسواق تنافسية لجميع عناصر الإنتاج والمنتجات, بحيث تكون أثمانها متساوية مع النفقات الحدية للحصول عليها وإنتاجها. وإذا كان للبيروقراطية تأثيرها السلبي في النشاط الاقتصادي في الدولة بصفة عامة, فكيف تؤثر البيروقراطية على مناخ الاستثمار الأجنبي بوصفه أحد القطاعات الاقتصادية المهمة التي توليها الدولة اهتماماً خاصاً في الوقت الحاضر؟ أي كيف تصبح البيروقراطية عنصراً سلبياً من عناصر اجتذاب الاستثمارات الأجنبية؟ من المعلوم أن هناك العديد من العوامل الاقتصادية، القانونية، السياسية، الأمنية، الضريبية، الإدارية، والتنظيمية التي تشكل مناخ الاستثمار المناسب لاجتذاب رؤوس الأموال للمشاركة في عملية التنمية الاقتصادية, والتي تسعي السعودية إلى توفيرها, ومع ذلك فإن هناك بعض المعوقات التي تؤثر سلباً في فاعلية المناخ الاستثماري, منها البيروقراطية, يؤكد ذلك قائمة معوقات الاستثمار الأجنبي في السعودية التي نشرتها جريدة "الاقتصادية" في عددها رقم 3488 بتاريخ 30/4/2003, والتي تضمنت 106 معوقين منها المعوق رقم 72 الذي يتمثل في (انتشار البيروقراطية وبطء الإجراءات الإدارية الحكومية). كما أجريت حوارات ولقاءات مع بعض المهتمين بالاستثمارات الأجنبية فأفادوا أن من أهم العوائق التي تعترض هذا النوع من الاستثمارات هو البيروقراطية. وتبدو العقبات التي تسببها البيروقراطية للمستثمر الأجنبي في عدة مراحل, أهمها: مرحلة الحصول على الموافقة على مشروعه, حيث يتقدم إلى الهيئة العامة للاستثمار المختصة بمنح الموافقة أو التصريح, فيجد قائمة طويلة من المستندات والأوراق يجب عليه أن يقدمها ويحصل على تصديق من وزارات وجهات متعددة, وهذا يستغرق وقتا وجهدا ملحوظا قد لا يروق له لأنه تاجر يبحث قبل كل شيء عن الربح, ويهمه في المقام الأول عنصر الوقت, إذ إن مرور الوقت قد يترتب عليه ضياع صفقات كبيرة بالنسبة إليه أو فقد أرباح متوقعة, ولهذا فإنه قد يعزف عن الحصول على الموافقات المطلوبة إذا كانت هناك مبالغة من الموظفين المختصين في التمسك بالروتين الإداري, ومن ثم يتجه إلى دول أخرى توفر له الوقت وتختصر الإجراءات من خلال تنظيم فروع ومكاتب للوزارات ذات الصلة بالأنشطة الاستثمارية وتركيزها في مكان واحد غالبا يكون في مبنى الهيئة المختصة نفسها بمنح التصريح أو الموافقة, وبذلك تهيئ له المناخ الإداري المناسب لاجتذابه وتوفر له وقته وجهده. وإذا كانت الهيئة العامة للاستثمار في السعودية قد سعت بالفعل إلى التغلب على هذه العقبة, إلا أن رحلة المستثمر مع الأجهزة الإدارية في الدولة لا تنتهي بمجرد حصوله على الترخيص بالاستثمار, بل إنها مرحلة مستمرة خلال مدة إنجازه للمشروع الاستثماري, فهو يتعامل بصفة دورية ومنتظمة مع هذه الأجهزة, ومن ثم فإن التغلب على البيروقراطية يتطلب من بين ما يتطلبه ضرورة تأهيل موظفيها وتدريبهم على كيفية إنجاز المعاملات في أسرع وقت ممكن وعدم تعطيلها وأن يتعامل الموظف بروح النظام لا بحرفية نصوصه, لأن التمسك بحرفية النصوص وتقديسها يؤدي في كثير من الحالات إلى وجود عالم قانوني داخل الإدارة يتميز بالجمود والحرفية وعدم الوضوح والتعقيد, فالبيروقراطي لا يعرف القوانين بقدر ما يعرف اللوائح, ولا يعرف كليهما بقدر ما يعرف التعليمات والتوجيهات والمنشورات التي يصدرها رؤساؤه لتنظيم سير العمل, وكثيراً ما يؤدي الفهم القاصر والحرفي لهذه التعليمات التنظيمية إلى مخالفة روح القانون الأساسي وبالتالي تضيع مصالح المواطنين على نحو لا يقصده من أصدر هذا القانون. فرحلة المستثمر مع الأجهزة الإدارية تظل ما بقي المشروع الاستثماري قائماً, فقد يحتاج المستثمر إلى استيراد معدات أو آلات من الخارج ومن ثم يلزم تخليصها من الجمارك في أسرع وقت ممكن, كما أن المشروع الصناعي الذي ينتج منتجات يتم تصديرها إلى الخارج يتعامل بصفة منتظمة مع أجهزة الجمارك, وقد يجري المستثمر توسعات على مشروعه الاستثماري فيتطلب الأمر الحصول على موافقات أخرى عليها من الأجهزة الإدارية المختصة, لهذا أرى أن من أهم العوامل التي تساعد على فاعلية نظام الاستثمار الأجنبي في السعودية حسن تعامل هذه الأجهزة مع المستثمرين الأجانب وحسن فهم الموظفين للأنظمة واللوائح والتعليمات وتفسيرها بما يتفق مع أهداف واضعيها وأن يتحصن سلوكهم الإداري لديه بمناعة ضد أمراض الوظيفة العامة.
إنشرها