عندما يغيب "تكافؤ الفرص" تصبح الحاجة أما للفساد
<a href="mailto:[email protected]">dubyani@aleqt.com</a>
حتى في المجتمعات التي تنحدر فيها الشفافية إلى أدنى الحدود ويستشري فيها الفساد على أوسع نطاق ويصبح عملا مؤسسيا يستند إلى جملة من القوانين (الوضعية الاستغلالية أو الشفهية) وتتم حمايته من العناصر المتنفذة، فإنه يظل سلوكا ونشاطا يتقاطع مع مصالح العامة وحقوق المجتمع الأساسية ويصير إلى أن يصبح معول هدم في المجتمع وصولا إلى تهديد استمرارية الكيان الجغرافي أو السياسي الذي يحتضنه.
ومن المعلوم أن الفساد (الإداري والاقتصادي) يخرج في العادة من أسباب يمكن حصرها في التالي: وجود شخص غير سوي في موقع مؤثر، أو أنه يحدث بسبب نقمة شخصية جاءت من عدم تكافؤ الفرص حيث يلجأ فرد أو مجموعة إلى الفساد لتحقيق مصلحتها التي لم تتأت بالأنظمة وهي تعتقد أنها أحق بهذه المصلحة، والحالة الثالثة هي تعرض فرد لضغوط من جهة ما لارتكاب نشاط فاسد دون أن يحقق مصلحة من وراءه حيث تعود المصلحة في الغالب للجهة الضاغطة.
وفي الحالة الأولى من مسببات الفساد، تسهل المعالجة بوجود جهات القضاء والجهات الرسمية التي تأخذ على عاتقها رقابة الأنشطة المرتبطة بشؤون الناس. لكن يظل الأمر أكثر تعقيدا عندما يحدث الفساد بالسببين الآخرين (حدوث الفساد لتحقيق مصلحة لم تتحقق بالأنظمة أو التعرض لضغط من جهة أو جماعة ما لارتكاب الفساد). الحديث هنا يتطرق إلى الفساد الذي قد يظهر في الأجهزة الحكومية خاصة تلك التي ترتبط مباشرة بحقوق الناس في أي بلد، فحدوث هذا الخطأ لا يكون شأنا ذاتيا، حيث يترتب عليه حرمان فئة من حقوقهم لصالح فئة ثانية أو أشخاص لا يستحقونها أو تعطيل حقوق ثابتة رغبة في استغلال أصحابها.
ولدينا لا يمكن أن نضع رؤوسنا في الرمال وننفي أن لا فساد ظهر منذ أعوام في كثير من قطاعات الأجهزة الحكومية وتدنى معه مستوى الكفاءة والإنتاجية، ومن يقول بغير ذلك فهو إما جاهل وإما أنه يفضل سياسة "النعامة" إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وعندما يشير قمة الهرم في البلاد إلى العمل على محاربة الفساد، فلا يمكن الاعتقاد بأن الحرب ستكون في مكان ليس فيه فساد. نشير هنا إلى خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في مجلس الشورى الذي افتتح به أعمال السنة الثانية من الدورة الرابعة للمجلس، حيث قال: إننا لا نستطيع أن نبقى جامدين والعالم من حولنا يتغير، ومن هنا سوف نستمر ـ بإذن الله ـ في عملية التطوير، وتعميق الحوار الوطني، وتحرير الاقتصاد، ومحاربة الفساد، والقضاء على الروتين، ورفع كفاءة العمل الحكومي، والاستعانة بجهود كل المخلصين العاملين من رجال ونساء، وهذا كله في إطار التدرج المعتدل المتمشي مع رغبات المجتمع المنسجم مع الشريعة الإسلامية. (انتهي كلام الملك). هذا كلام خادم الحرمين الشريفين، ويكفي أن نقول ذلك ولا نزيد إلا بأنه من قمة السلطة وهو يعكس أن فعل الفساد بلغ من الأمر أن وصل إلى مرحلة لا يمكن معالجتها إلا بإصلاح اقتصادي يصدر أمره من أعلى سلطة متدرجا في التنفيذ إلى أدنى موظف.
لكن كيف استشرى الفساد في الأجهزة الحكومية لدينا؟ عندما نستبعد عامل (الفرد غير السوي) فإن العاملين الباقيين يظلان هما المتسبب الحقيقي في المرحلة التي وصلتها هذه الظاهرة، فلا أحد ينكر أن هناك غيابا ولو محدودا في تكافؤ الفرص بين موظفي الدولة من حيث الترقية والزيادة المالية، الأمر الذي بات معه عدد من الموظفين محتاجين (ماليا أو موقعياً)، وهنا تلجأ فئة منها إلى الفساد لتحقيق مصلحتها وتجاوز حاجتها. لا يمكن أن تبقى معاملة لمواطن في أروقة بعض الأجهزة الحكومية أشهر عديدة ولا تخرج لها نتيجة إلا "بدهن السير" ولا نسمي ذلك فسادا.
لا يمكن أن يحصل البعض على حقوقهم المستوجبة لأي جهة حكومية ويبقى آخرون قيد الانتظار دونما سبب، ولا نصنف ذلك إلا بيروقراطية ونضع رؤوسنا في الرمال ولا نصنفه ضمن ضروب الفساد. لا يمكن أن يبقى خريج ثانوية نسبته أعلى من 90 في المائة خارج أسوار الجامعة ومن هو أقل نسبة منه يختار الكلية التي يريدها، ولا نقول إلا "قسمة ونصيب"!
كيف يبقى موظفون وموظفات ومعلمون ومعلمات سنين طوال يخدمون في القرى والهجر بعيدا عن ذويهم وفئة أخرى تختار مواقعها في أقرب نقطة إلى حيث تسكن، ولا نقدر على قول إنه غياب تكافؤ الفرص الذي يولد فسادا يصعب مع الوقت علاجه.
والأمر لا يقتصر على ذلك، بل إن غياب تكافؤ الفرص بهذا الشكل يولد فسادا مضادا حيث تلجأ إليه الفئة المتضررة من الغياب وتقبل الرشوة أو تدفعها على سبيل المثال لتعويض ما فاتها من الفرص، وهنا يصبح الفساد عملا مؤسسيا يقع في حباله أكبر قدر من فئات المجتمع. وللحديث بقية.