Author

مشروعية التدخل الحكومي في سوق الأسهم

|
أخذ موضوع التدخل الحكومي المباشر في سوق الأسهم السعودية إبان تعرضها للانهيار اهتماما شعبيا ورسميا كبيرين. انقسم المهتمون بشؤون السوق إلى فريقين، ما بين مؤيد للتدخل الحكومي ومعارض له، كلاهما يعتقد بسلامة موقفه ومنطقية قراره المتخذ حيال أزمة الانهيار، ما يجعلنا أكثر حاجة لمناقشة الآراء المتضادة من أجل الوصول إلى الرأي الراجح في قضية "التدخل الحكومي في الأسواق المالية". يمكن القول إن هناك وجهتا نظر يمكن من خلالهما تحديد مدى مشروعية التدخل المباشر في أسواق المال بقصد الحماية. ترفض وجهة النظر الأولى مبدأ التدخل في الأسواق المالية وتعد هذا التصرف نوعا من أنواع محاربة الاقتصاد الحر المبني على قوى العرض والطلب. تدعم هذه النظرية غالبية الدول الغربية وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية. أما وجهة النظر الثانية، فهي تعتمد على إعطاء السوق الحرية التامة لتحديد اتجاهاتها من خلال قوى العرض والطلب شريطة أن لا تنحرف السوق عن خطها المتوازن، فإن انحرفت جاز للجهات الرسمية التدخل من أجل حماية الاقتصاد والمجتمع. جميع القوى الشعبية تؤيد وجهة النظر الثانية وتعتبرها خط الحماية الرسمي الذي يغرس في نفوسهم الثقة والطمأنينة والأمان، في حين ينحو معظم الاقتصاديين، وكذلك الأنظمة العالمية، منحىمؤيدا للنظرية الأولى التي تحرم التدخل في الأسواق المالية، وإن كان في تدخلها حماية للمجتمع من الانهيار. لثلاثة أسابيع متتالية، سيطرت وجهات النظر الرافضة للتدخل الحكومي على مجريات الأمور. واستشهد معتنقوها كثيرا بقوانين منظمة التجارة العالمية، والقوانين العالمية، ومبدأ العدالة في تحديد الأسعار من خلال قوى العرض والطلب. على الرغم من منطقية تبريرات الرافضين للتدخلات المباشرة في الأسواق المالية، إلا أن ذلك لا يمنع من مناقشة الأمر من منظور آخر يتعلق بالبيئة الاستثمارية والحاجات الإنسانية والمصلحة الوطنية على اعتبار أن الاقتصاد الكلي مقدم على الاقتصاد الجزئي وسلامة المجتمع وحمايته من الانهيار أهم وأبقى من الالتزام بتطبيق القوانين والأنظمة العالمية. وطالما أن القوانين الشرعية المنزلة يمكن تجاوزها عند الحاجة الملحة وهي ما يدخل في باب "الرخص الشرعية" فمن باب أولى تجاوز القوانين الوضعية من أجل حماية المجتمع من الانهيار. نعود للمتطلبات العالمية الرافضة للتدخلات المباشرة في أسواق المال ونذكر بأن الأسواق العالمية، وخلال مراحل تطورها، قد تعرضت إلى هزات عنيفة أكسبتها الخبرة الكافية على المستويين الشعبي والرسمي لتجاوز الهزات العارضة التي تتعرض لها أسواقهم المالية، بعكس الأسواق الناشئة ضعيفة التكوين. إضافة إلى أن الدول الغربية المتقدمة قد أفنت سنوات عديدة من التجارب والتثقيف والدعم الحكومي المتواصل حتى وصلت إلى مرحلة التعويم الكلي لأسواق المال، ومع ذلك فهي ما زالت تحتفظ لنفسها بحق التدخل لمصلحة اقتصادها العام في حالة الأزمات الحادة، والشواهد كثيرة في أسواق نيويورك، وسوق لندن المالية، وطوكيو بل وحتى سوق مومبي المالية. سنتجاوز أسواق المال إلى أسواق النفط، وهي من الأسواق العالمية الخاضعة لقوانين المنظمات العالمية، وسنركز هنا على تدخل الغرب السافر في الأسواق العالمية ضاربين بعرض الحائط قوانين العرض والطلب والقوانين الدولية التي يفرضون علينا تطبيقها، فالولايات المتحدة الأمريكية تستخدم قوتها السياسية، الاقتصادية، والعسكرية من أجل التأثير المباشر في أسواق النفط العالمية، من خلال البورصات حينا ومن خلال الضغط على الدول المنتجة أحيانا أخرى. ألا يعتبر هذا نوعا من أنواع التدخل في موازين قوى العرض والطلب وآلية تحديد الأسعار؟ عندما تعرضت مصالح الغرب للخطر نقضوا جميع النظريات التي كانوا يفرضونها على الأسواق الناشئة، فمصلحتهم الخاصة مقدمة على قوانين الأرض والسماء، والعياذ بالله، وهذا هو الرأي الأبلج الذي لا يمكن نفيه أو تجاهله. المشكلة تكمن في تقبلنا لنظرياتهم وشروطهم الأحادية التي يهدفون من خلال بعضها إلى زعزعة الأمن وإبادة المجتمع. لماذا لا نطالب بتطبيق نظرية حرية التسعير من خلال قوى العرض والطلب على المنتج الاستراتيجي الوحيد الذي نحصل من خلاله على غالبية إيرادات الدولة، وهو النفط؟ بدلا من تلهفنا على تطبيق شروطهم الخاصة على أسواقنا الناشئة. أليس من الواجب أن نكون أكثر شدة في انتزاع حقوقنا الشرعية من الغرب بدلا من تبني قوانينهم أحادية النظرة التي لا يتماشى بعضها مع أصول الشريعة الإسلامية التي تحث على التكافل وإغاثة الملهوف وحماية المجتمع من الانهيارات المالية والاجتماعية والأمنية؟ نعود مرة أخرى لمشروعية التدخل الحكومي لحل الأزمات الداخلية والخارجية ذات العلاقة بالمجتمع، ونذكر الرافضين لفكرة تدخل الدولة لوقف انهيار سوق الأسهم السعودية بدور الحكومة الفاعل في حماية الريال السعودي من الانهيار عندما تعرض إلى حرب شعواء من مستثمرين غربيين أدى إلى انخفاضه في سوق العملات الدولية. تدخلت وزارة المالية ممثلة في مؤسسة النقد لدعم الريال ما أدى إلى استنزاف الكثير من احتياطياتها النقدية ثم عدلت من سعر فائدة الريال مقارنة بالفائدة على الدولار الأمريكي من أجل تكبيد المضاربين الغربيين الخسائر الفادحة في البيوع الآجلة. تدخل وزارة المالية الفاعل لحماية الريال من الانهيار حمى المجتمع بأسره من كوارث كادت أن تعصف بمقدراته. وعلى المستوى الخارجي تدخلت الدول الخليجية الغنية، ومن ضمنها السعودية، لدعم الليرة اللبنانية ووقف تدهورها من خلال إيداع مبالغ مالية ضخمة (ودائع حرة من دون فوائد) تجاوزت مليارات الدولارات في البنك المركزي اللبناني ما ساعد على استقرار الليرة اللبنانية وساهم في حماية المجتمع من الانهيار. ألا يمكن اعتبار مثل هذه الأعمال الخيرة التي يحث عليها ديننا الحنيف، من وجهة نظر الرافضين، تدخلا في الأسواق المالية. قد يقول قائل: إن ذلك التدخل جاء لردع بعض التصرفات الخاطئة التي هدف من خلالها زعزعة الاستقرار الاقتصادي. يمكن القول بذلك، وهو ما يمكن أيضا أن يطبق على سوق الأسهم السعودية التي شهدت تدميرا متعمدا أدى إلى انهيارها المفاجئ. فما حدث في سوق الأسهم السعودية كان أكبر من أن نصنفه ضمن العمليات التصحيحية، أو أن ننظر إليه من زاوية واحدة نعتمد فيها على نظريات الاقتصاد وقوى العرض والطلب. كانت هناك بوادر واضحة لانهيار السوق من خلال خسارة المتداولين لأكثر من 80 في المائة من رساميلهم المستثمرة، ما يعني إمكانية تعرض المجتمع بأسرهللانهيار. كان يفترض أن ينظر إلى ما حدث في السوق بنظرة أكثر شمولية وواقعية من أجل حماية المجتمع بأسره من الانهيار، وهي النظرة التي تبناها الملك عبد الله بن عبد العزيز بعد أن يئس من حلول الاقتصاديين وتباطئهم في حل الأزمة. هناك أيضا نظرة فنية ذات علاقة بقوى العرض والطلب لا يمكن إغفالها، فالدولة تمتلك أكثر من 70 في المائة من الأسهم القيادية المطروحة للتداول، وهو ما يعني أن السوق لا تعمل بالكفاءة المطلوبة بسبب حجب الغالبية العظمى من الأسهم عن التداول ما يؤدي إلى تضخم الأسعار بسبب نقص العرض، وهو ما حدث بالفعل، لذا يمكن القول بأن الدولة ساهمت بشكل غير مباشر فيما حدث للسوق، وفي تدخلها إصلاح للخلل أكثر من كونه تدخلا لدعم السوق. يمكن القول إن التدخل الحكومي لا يمكن أن يحصر في التدخل المباشر من خلال ضخ السيولة في السوق، بل هناك من وسائل الدعم النفسية والفنية ما يمكن أن يتفوق على الدعم المالي بمراحل كثيرة. تهدئة الأسواق من خلال الطمأنات والتصريحات الرسمية الإيجابية قد يكون لها أكبر الأثر في دعم الأسواق المالية وهو ما حدث بالفعل بعد تصريحات الملك عبد الله الإيجابية عن الاقتصاد والتنمية وقرارات التجزئة والاستثمار الأجنبي المباشر في السوق. نخلص إلى القول بأن الحاجة يمكن لها أن تحدد مشروعية التدخل الحكومي في أسواق المال بغض النظر عن النظريات والأنظمة الاقتصادية العالمية، أو القناعات الشخصية، وما يمكن اعتباره محرما في الأوقات الطبيعية يصبح واجب التنفيذ في أوقات الأزمات كالتدخل الحكومي لوقف الانهيار الذي تعرضت له سوق الأسهم السعودية.
إنشرها