نشاط البحث والتطوير: عنصر التفوق المستقبلي
نقرأ بين الحين والآخر خبرا هنا أو مقالا هناك يشير إلى أهمية البحث العلمي أو البحث والتطوير وكيف أن الدول الكبرى أو المتقدمة تخصص مبالغ طائلة لتنمية البحث العلمي بغية الوصول إلى إبداع تكنولوجي يتمثل بتطوير منتج جديد أو تحسين منتج موجود أو ابتكار عملية أو أسلوب إنتاجي جديد أو تحسين عملية قائمة، وبالطبع عندما نقول منتجا نقصد به سلعة صناعية أو خدمة. والمتتبع لتطور الخدمات مثلا في المصارف يلاحظ الفرق الكبير في عدد الخدمات وجودتها وتطور سبل تقديمها بإضافات متميزة تكاد تكون سنوية. ما نراه في الخدمات يمكن ملاحظته بوضوح أكثر في الصناعة على اختلاف قطاعاتها ابتداء من صناعة السيارات ومرورا بالإلكترونيات والكهربائيات وانتهاء بالصناعات الدوائية والصيدلانية. كيف أصبحت الشركات الصناعية والخدمية الكبرى بؤرة إبداع وبحث وتطوير مستمر؟ نسمع عن شركات كبرى لها معاهدها العلمية الخاصة بها التي تعتبر من أفضل المراكز الأكاديمية العلمية الناجحة، حيث تمنح الشهادات العليا الرصينة وفي الوقت نفسه تقدم أرقى المنتجات الصناعية الحديثة من أمثلتها شركة توشيبا اليابانية وجنرال موتورز الأمريكية. هناك ظاهرة تلفت الانتباه في عالم اليوم و هي سرعة دخول المنتجات الجديدة للسوق وسرعة خروج منتجات أخرى، وبعبارة أخرى وحسبما يفسره لنا أساتذة التسويق بقصر دورة حياة المنتج وسرعة إحلال منتجات جديدة محل القديمة، فالهاتف الخلوي أو بالأحرى الجيل الأول منه مختلف تماما عن الهواتف الخلوية المتطورة ذات المزايا المتعددة والتكنولوجيا العالية، بالرغم من أن الفترة الزمنية بينهما قصيرة تعد بالسنوات فقط. ما نريد قوله إن سرعة تجسيد الأفكار والبحوث في شكل منتجات أصبح ظاهرة أساسية في حياتنا ودون أن نشعر لأن من يقوم بهذا العمل هي شركات كبرى في دول متقدمة ساهمنا نحن باستهلاكنا الكثيف وطلبنا المتزايد في دعم نهضتها العلمية والإبداعية، إنه البحث العلمي والتطوير المؤدي إلى الإبداع والإتيان بالشيء الجديد. نعرف جيدا واعتمادا على ما ورد في الأدبيات أن هناك بحوثا أساسية وبحوثا تطبيقية وبحوثا مساعدة وتطويرا، وكل من هذه المصطلحات يختلف في غرضه عن الآخر وجميع الأنواع مطلوبة وحيوية للنهوض بالاقتصاد والقطاع الصناعي خصوصا.
إن دولنا ومجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في تنمية هذا النشاط ودعمه لأنه استثمار اليوم الذي سيعطي نتائجه مستقبلا. عندما نطلع على إحصائيات خاصة بشركات كبرى أو ميزانيات دول نجد أن نسبة معتبرة منها مخصصة للبحث والتطوير، بل إن المجموعة الأوروبية لديها خطة مستقبلية تعرف بخطة 3 في المائة، حيث إنها، أي دول المجموعة، ستخصص ما لا يقل عن 3 في المائة من موازناتها لأغراض البحث والتطوير. إن التراكم الكبير الحاصل في هذه الدول في مجال البحوث والبنى التحتية العلمية والتجهيزات المختبرية كبير جدا بسبب الإنفاق السنوي الكبير. إن هذا التراكم ومنذ سنوات طويلة بدأ بإعطاء نتائج باهرة تزيد من الفجوة بين هذه الدول ودول العالم الأخرى. إن أعداد الأطاريح العلمية مرتبط بحل مشاكل عملية موجودة لدى المنشآت الصناعية والخدمية، وبالتالي فالمردود العلمي والعملي متزامنان مما يجعل الفائدة من البحث العلمي مضاعفة وإمكانية دعم المناخ الإبداعي في المجتمع أكبر. والحال في أمريكا وكوريا الجنوبية واليابان مشابه، إن لم يكن أكثر تطورا عنه في أوروبا ويكفي إلقاء نظرة سريعة على ميزانية البحث العلمي في أمريكا لسنة 2005 لمعرفة مدى الاهتمام بنشاط البحث والتطوير، فقد بلغت مخصصات هذا النشاط 130465 مليار دولار في مختلف القطاعات، في حين أن الميزانية التي بدأت أمريكا بتنفيذها لسنة 2006 تصل إلى ما يقارب 134351 مليار دولار مع توقعات بزيادتها إلى 136953 مليار دولار عام 2007. إن هذه الأرقام الهائلة توضح مدى الأهمية التي تعلقها دولة عظمى مثل أمريكا على البحث والتطوير، علما أن هناك تفاوتا بين القطاعات المختلفة مثل الدفاع والطاقة والصحة والتعليم والاتصالات وغيرها، إما بالزيادة وإما بالنقصان وفقا لاعتبارات معينة محسوبة. إن ذكر هذه الأرقام والأفكار التي استعرضناها نريد لها أن تكون أرضية لمناقشة واقع البحث العلمي والاتفاق عليه وحالة الإبداع التكنولوجي في الواقع الصناعي السعودي خاصة والعربي عامة.
لقد أشرنا في إحدى مقالاتنا السابقة إلى أن الإبداع التكنولوجي أصبح حالة مؤسسية ولا تترك للصدفة والمبادرات الفردية، بل إنها منهج منظم مستمر وغزارة الدراسات والبحوث وعدد المجلات المتخصصة في موضوع الإبداع التكنولوجي دليل على الأهمية الاستثنائية التي يحظى بها، وفي المقابل فإن قلة بل ندرة البحوث والدوريات والمؤتمرات التي تعنى بالموضوع في بيئتنا العربية دليل على الحاجة الماسة إلى إعطاء الموضوع ما يستحق من اهتمام ودعم سواء من قبل الحكومات أو الشركات الصناعية بالذات، كذلك يجب أن تطرح الجامعات مفردات خاصة بموضوع الإبداع التكنولوجي وإدارته وسبل تنميته أسوة بدول العالم الأخرى. إن كثيرا من المفكرين أشاروا إلى أن التطور في مختلف المجالات يحصل عندما يكون هناك مبادرون كثيرون وما التكنولوجيا والثروة إلا عوامل مساعدة للوصول إلى حياة متطورة. لدينا اليوم شركات كبرى ناجحة أثبتت وجودها عالميا لكن عددها قليل و ما يخصص فيها للبحث والتطوير لا يزال دون الطموح. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن تقرير التنمية البشرية العربية الصادر عام 2003 أشار إلى نقص واضح في مجال التنمية المعرفية الذي يرتبط ارتباطا مباشرا بالبحث والتطوير يتجلى في نقص في عدد المهندسين والعلماء وعدم توافر بُنى تحتية علمية وانخفاض في مؤشرات الإبداع والابتكار.
إن الإمكانيات المادية المتاحة اليوم والعدد الكبير من الجامعات والمعاهد العلمية يمكن أن تكون رافدا أساسيا لدعم حركة جدية للبحث والتطوير والإبداع. يجب أن نفكر جديا في تغيير مهمة الجامعة وعدم حصرها في تدريس نصوص منهجية فقط، إن من المؤشرات الخطرة في الكثير من الجامعات العربية اليوم هو معاناتها من نقص فاضح في الكوادر المتخصصة في بعض المواد الدراسية وأعني المتخصصة فعلا، حيث كثيرا ما تغطى المساقات من قبل أساتذة من تخصصات أخرى قريبة. إذن، كيف سنعالج الفجوة البحثية الكبيرة بين جامعاتنا وجامعات متقدمة ونحن مازلنا بعيدين عن تغطية النصوص المنهجية بشكلها الصحيح، وبالطبع فإن مهمة البحث والتطوير ليست محصورة في الجامعات فقط، فهناك القطاع الخاص وخصوصا الصناعي وكذلك المنظمات المدنية الأخرى غير الهادفة للربح، إضافة إلى الحكومة التي يمكن أن تلعب دورا مهما في التنسيق والتوجيه لأنشطة البحث والتطوير.
إن استعراض البحوث المنجزة في الجامعات والمنشورة في الدوريات العلمية العربية يشير إلى أن جزءا مهما منها يعد بشكل سريع وأغلبها موجهة للوفاء بمتطلبات الترقية العلمية وغير ممولة أو حصلت على تمويل بسيط.
هناك غياب كبير للمشاريع العلمية الضخمة التي يقودها أساتذة جامعات مثلا وبتعاون مع شركات صناعية كبرى كما يحصل مثلا في قطاع الصناعات الدوائية في دول متقدمة. ما نريد أن نؤكد عليه هو ضرورة إيجاد ترتيب سريع للنهوض بواقع البحث العلمي والتطوير يساهم فيه القطاع الصناعي متعاونا مع الجامعات والمعاهد الأكاديمية، الأمر الذي يدفع باتجاه إحداث طفرة حقيقية في مجال الإبداع التكنولوجي كمحصلة نهائية لنشاط البحث والتطوير. أعتقد أن إشاعة ثقافة الإبداع والبحث العلمي في الشركات الصناعية، خصوصا الكبرى منها وكذلك التوعية المستمرة بأهمية هذا الموضوع هو الخطوة الأولى بالاتجاه الصحيح، فاعتماد الشركات الصناعية على الاستراتيجيات التنافسية التقليدية مثل السعر والإنتاجية والجودة وغيرها على أهميتها القصوى، لكنها لا تتلاءم بشكل كامل مع نمط اقتصاد المعرفة أو الاقتصاد الرقمي، كذلك العمل على خلق مناخ تنظيمي إبداعي في الشركات الصناعية ودعم المبادرات الابتكارية والمبدعين هو أمر بديهي للارتقاء بمستوى إنتاج هذه الشركات. كذلك فإن الاطلاع على تجارب الدول الأخرى أو الشركات الرائدة الأخرى في المملكة أو البلدان العربية الأخرى يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة، ووجود المكتبة الغنية بالدوريات والكتب ووقائع المؤتمرات يقدم دعما فنيا لفرق البحث والإبداع، فمثلا هناك مقاييس دولية وتقارير سنوية لتقييم الأداء الإبداعي، التي تعد منذ عدة سنوات من قبل المجموعة الأوروبية، حيث تم تقسيم مؤشرات الأداء الإبداعي (الذي يقوم أساسا على البحث التطوير) إلى أربع مجاميع تشتمل الأولى على خمسة مؤشرات للموارد البشرية المهيأة للإبداع. أما الثانية فتختص بكيفية خلق المعرفة ولها أربعة مؤشرات، وهذا العدد نفسه يتضمنه المؤشر الثالث الخاص بنشر وتطبيق المعرفة وأخيرا فإن تمويل الإبداع ومخرجاته والسوق التي ستتلقى الإبداع أو نتائج البحث والتطوير لها سبعة مؤشرات. إن أي شركة صناعية يمكن أن تتعلم الكثير من هذه التقارير والدراسات وأود الإشارة إلى أن تقييم الأداء الإبداعي يتم سنويا في 25 دولة أوروبية ويتخذ صفة الإلزام تجاه المجموعة الأوروبية. من كل ما تقدم نريد أن نخلص إلى ضرورة الاستفادة من الظاهرتين اللتين تمر بهما المملكة ودول عربية أخرى: فورة الأسهم وطفرة أسعار النفط وتوجيههما نحو البحث العلمي.
إن استثمار الأموال في البحث العلمي والإبداع اليوم في وقت الرخاء سيكون له مردود كبير مستقبلا. إنها بداية لنهضة علمية ضرورية لمواكبة عالم الاقتصاد الرقمي.