"حماس" بين الحقيقة والدعاية الإسرائيلية والأمريكية
لا يزال فوز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وتكليفها من الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتشكيل الحكومة هو الحدث الأكبر في الشرق الأوسط والعالم العربي في الفترة الراهنة. ووسط الدهشة العربية والعالمية أمام فوز "حماس" الساحق تنشط آلة الدعاية الإسرائيلية والأمريكية لتشويه سمعة "حماس" ووصمها بالإرهاب وبأنها لا تختلف في شيء عن الجماعات والتنظيمات الإسلامية التي زاد انتشارها بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 على مستوى العالم واتسم فكر وتحرك العديد منها بالعنف والإرهاب في أحيان كثيرة. وهذا الخلط المقصود بين طبيعة "حماس" ودورها وطبيعة مثل تلك الجماعات العنيفة والإرهابية ودورها يرمي في الحقيقة إلى الضغط على "حماس" بأقصى قدر ممكن بما يؤدي بها إلى التنازل عن المطالب والحقوق الفلسطينية المشروعة التي تصر على التمسك بها في أي تفاوض قادم مع الطرف الإسرائيلي، وذلك بتصوير هذا الإصرار على أنه أحد مظاهر كونها جماعة متطرفة وإرهابية وليس لأنها تطالب بما كفله القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة للفلسطينيين من حقوق. وبالتالي فإن الهدف الرئيسي من الهجوم على "حماس" اليوم والترويج من الجانبين الإسرائيلي والأمريكي بأنها "جماعة إرهابية" ليس هو عزل "حماس" أو محاصرتها فقط، بل وقبل ذلك إهدار حقوق الشعب الفلسطيني في أي مفاوضات قادمة.
وفي هذا السياق يبدو مهماً أن يعاد التذكير بحقيقة طبيعة حركة "حماس" ضمن الخريطة الواسعة والمعقدة للحركات الإسلامية التي يموج بها العالم كله اليوم، والتي كان لها دور في هذا النصر الانتخابي وسيكون لها تأثير على أدائها في الحكومة الفلسطينية التي ستشكلها. وفي هذا الإطار تبدو نقطتان رئيسيتان: الأولى، هي أن "حماس" حركة سياسية ـ اجتماعية سلمية ذات برنامج إسلامي عام لا تختلف في طبيعتها أو تكوينها العام عن غيرها من الجماعات المماثلة من اليمين أو اليسار أو الوسط سوى في مضمون برنامجها. فـ "حماس" ليست جماعة دينية إسلامية تقوم على النظر إلى صحة العقيدة عند الأفراد المسلمين أو المجتمعات والدول المسلمة، فهي على خلاف الجماعات الدينية ليس لديها أي شكوك تتعلق بصحة إسلام كل هؤلاء، بل إن ما تطرحه يتعلق في الأساس بإعادة تنظيم المجتمع الفلسطيني وفقاً لما ترى أنه برنامج مستقى من الشريعة الإسلامية. وبذلك فحركة "حماس" لا ترمي, مثل الجماعات الدينية الإسلامية بمختلف أنواعها, إلى إعادة أسلمة الأفراد أو المجتمعات أو الدول المسلمة ولا إلى تأسيس دولة إسلامية، بل هي تعترف مسبقاً بصحة إسلامهم وتنطلق من هذا لطرح برنامجها "الدنيوي" المشار إليه والذي يرمي إلى تحسين أوضاعهم وليس إلى تنفيذ أوامر إلهية كما تعتقد الجماعات الدينية.
وتنفرد "حماس" ثانياً عن الحركات الإسلامية السياسية ـ الاجتماعية، مثل الإخوان المسلمين في مصر، بكونها أيضاً حركة تحرر وطني تهدف أولاً إلى تحرير الأراضي الفلسطينية التي قامت إسرائيل باحتلالها بالقوة العسكرية على مراحل مختلفة. وبالتالي فـ "حماس" تختلف تماماً عن الجماعات الدينية المتشددة والمعروفة باسم الجماعات الجهادية أو الإرهابية مثل القاعدة ومثيلاتها، حيث إنها حركة ذات طابع سياسي في الأصل وليس عسكري أو عنيف. ويأتي هذا الاختلاف في الأساس من تبني "حماس" لتفسيرات معتدلة ووسطية للدين الإٍسلامي وليست متشددة وعنيفة مثلما تفعل الجماعات الجهادية والإرهابية الإسلامية. ويفسر هذا الأمر قيام "حماس" بأنشطة عسكرية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية وأهداف إسرائيلية أخرى كغيرها من جماعات المقاومة الوطنية المسلحة في المناطق المحتلة عسكرياً. وهنا يظهر فارق ثان رئيسي بين "حماس" والجماعات الجهادية أو الإرهابية المشار إليها سابقاً وهو أنها لا تقوم بأي عمل عسكري خارج الأراضي الفلسطينية والإسرائيلية ولم تهاجم مطلقاً أي أهداف غير إسرائيلية.
وفي السياق نفسه فإن الطبيعة الخاصة لـ "حماس" قد فرضت عليها أن تشمل جناحين أحدهما الجناح السياسي العلني والآخر الجناح العسكري السري الذي يقوم بعمليات المقاومة المسلحة وهو "كتائب الشهيد عز الدين القسام". وإذا كانت طبيعة نشاط الجناح العسكري واضحة ومعروفة للجميع، فإن أنشطة الجناح السياسي تبدو أقل شهرة بالرغم من أهميتها ودورها في زيادة شعبية الحركة في الواقع الفلسطيني. فـ "حماس" كغيرها من الحركات الإسلامية السياسية ـ الاجتماعية نشطت في عديد من المجالات والاجتماعية والدينية والثقافية في الداخل الفلسطيني منذ قيامها حتى استطاعت أن تصل إلى الحصول على أغلبية الأصوات التي حققت بها نصرها الانتخابي. ومن المعروف في هذا الإطار أن "حماس" قد استمرت قبل إعلانها في كانون الأول (ديسمبر) 1987، عندما كانت مجرد فرع للإخوان المسلمين في فلسطين، تعمل بصور مختلفة في المجتمع الفلسطيني من خلال شبكات اجتماعية واسعة ونشطة للغاية مما مهد الطريق لها للاستمرار بعد إعلانها في تلك الأنشطة الاجتماعية وإضافة الأنشطة السياسية والعسكرية إليها. وظلت "حماس" خلال المرحلتين المتعاقبتين من تاريخها تهتم بصورة واضحة بالعمل الاجتماعي والخيري والثقافي والديني في غزة والضفة الغربية بدون أن تؤثر على ذلك الأنشطة السياسية والعسكرية التي مارستها منذ إعلانها. أما في المرحلة الثانية بعد إعلان "حماس" فقد أضافت إلى تلك الأنشطة الاجتماعية أنشطة سياسية كثيرة في مختلف المناطق الفلسطينية فضلاً عن عمليات جناحها العسكري، بما أدى إلى جذب وتجنيد أعداد كبيرة من الفلسطينيين للانضمام إلى جناحيها السياسي والعسكري. وتوجت "حماس" ذلك النشاط السياسي أخيرا وقبل الانتخابات البرلمانية بالاشتراك في الانتخابات البلدية التي جرت في الأراضي الفلسطينية قبل عدة شهور حيث حصلت على أغلبية مقاعدها.
إذاً، فحركة حماس لم تكن يوماً في أفكارها أو نشاطاتها الراهنة أو تاريخها السابق جماعة ذات طابع إرهابي أو متطرف أو عنيف، بل كانت دوماً جماعة ذات طابع سياسي ـ اجتماعي اضطرت لممارسة المقاومة المسلحة التي يكفل لها القانون الدولي الحق في ممارستها نظراً لوجود قوة احتلال عسكري أجنبي في بلادها. فعلى من يرد من "حماس" أن تتراجع عن تلك الممارسة "المؤقتة" للعنف المسلح أن يزيل السبب الوحيد الذي دفع بها لذلك، وهو الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.