ازدواجية المصالح في سوق المال.. عبرة من موسكو

الفصل بين التعاملات الأخلاقية وغير الأخلاقية في أسواق المال الناشئة مهمة ليست باليسيرة تبدأ بتغيير الازدواجية إلى الفردية
انعكس انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر 1991م على منهجية الاقتصاد الروسي. ففي بداية 1992م، بدأت الحكومة الروسية تنفيذ برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي يهدف إلى الانفتاح على الأسواق العالمية. بدأ البرنامج بتحرير الأسعار، وتقليص الإنفاق العسكري، وتأسيس مؤسسات مالية خاصة، وأخيرا وليس آخرا تخصيص الشركات تمهيدا لطرحها في سوق موسكو للأوراق المالية.
كان أحد أهم التحديات التي واجهت برنامج التخصيص الروسي تقييم أصول الشركات. فتملك الدولة لجميع مقومات الاقتصاد الوطني إبان فترة الحكم الشيوعي، وما صاحبه من مركزية النظام الاقتصادي والتجارة الخارجية، إلى آخره من السياسات الاقتصادية، أدى إلى استحالة تقييم أصول الشركات.
ولمواجهة هذا التحدي، كشفت الحكومة الروسية النقاب عن تشكيل اللجنة الحكومية الفيدرالية الروسية لشؤون الملكية، حيث بدأت اللجنة عملها في منتصف عام 1993م لغرض البحث عن أدوات فنية لتقييم أصول الشركات. ووجدت اللجنة ضالتها في برنامج سندات التخصيص.
تتشابه سندات التخصيص من حيث المبدأ بالسندات الحكومية. فكل سند يمثل ملكية جزئية لإحدى الشركات، وقابل للتحويل إلى أسهم ثم تداولها بشكل مباشر في السوق الثانوي عند افتتاحه في النصف الثاني من التسعينيات الميلادية. تم توزيع سندات التخصيص على عمال الشركات التي يعملون بها بهدف تنشيط حاسة الملكية الشخصية، وتحسين أحوالهم الاقتصادية. تم الانتهاء من توزيع سندات التخصيص في منتصف 1994م.
تم أيضا في العام نفسه إعادة افتتاح سوق موسكو للأوراق المالية بجميع أقسامه بعد فترة إغلاق دامت أكثر من سبعة عقود نتيجة قيام ثورة بولشفيك Bolshevik في نهاية 1917م. ففتحت الهيئات والمؤسسات المالية الخاصة من مصارف، وشركات استثمار، ووساطة مالية أبوابها لخدمة عملاء السوق من عمال الشركات المالكين لسندات التخصيص.
كان سوق موسكو يخضع من الناحية التشريعية إلى الجمعية الوطنية لأسواق المال NAUFOR، ومن الناحية التنفيذية إلى إدارة السوق. كانت جوانب السوق الفنية أقل تواضعا من الجوانب السابقة، حيث تتم عملية التسوية يدويا في البنك المركزي، وعملية التداول آليا في السوق، وعملية التقاص شبه آلي في مكاتب شركات الوساطة المالية.
وعلى الرغم من ضخامة إنتاج ومبيعات الشركات المدرجة في السوق إلا أن قيمة أسهمها السوقية لم تتعد في 1995م 20 مليون دولار أمريكي. من أهم الأسباب التي أدت إلى تواضع أداء السوق قرارات السلطة التشريعية NAUFOR، التي كانت تتكون من نحو 400 وسيط مالي، ولا تتوانى عن إصدار ما من شأنه تطوير القاعدة التجارية لأعضائها من الوسطاء الماليين. ومن هذه القرارات تأخر افتتاح السوق الثانوي حتى بداية عام 1996م.
حيث استفاد عدد ليس بالقليل من شركات الوساطة المالية من تواضع وعي عمال الشركات بالقيمة المالية المستقبلية لسندات التخصيص، وتمركز قاعات التداول في المدن الرئيسة دون مناطق وجود الشركات في المناطق النائية، وتذبذب المهام التشريعية، والتنظيمية، والتشغيلية بين مؤسسات مختلفة، في شراء سندات التخصيص من عمال الشركات بثمن بخس.
في بداية عام 1996م، أعلنت NAUFOR عن افتتاح السوق الثانوي والسماح لمالكي سندات التخصيص بتحويلها إلى أسهم تمهيدا لتداولها. فوجئ المتابعون بأن شركات الوساطة المالية أصبحت هي المالك الرئيسي لأسهم سندات التخصيص دون عمال الشركات، حيث بدأت بلعب دور "المستثمر" في أسهم سندات التخصيص دون دور "الوسيط" بين السوق وعمال الشركات. جنت شركات الوساطة المالية أرباحا خيالية من هذه العملية وصلت في بعض أسهم الشركات إلى ما معدله 5.000 – 10.000 في المائة من السعر الدفتري لسند التخصيص.
لم تتوقف الممارسات غير الأخلاقية لشركات الوساطة عند هذا الحد، بل تعدتها لتسيطر على معظم قنوات السوق الاستثمارية بأساليب خارج عرف أسواق المال العالمية. من هذه الأساليب "التلاعب بالأسعار"، فبسبب أن عملية التسوية تتم بشكل منفصل عن عملية التداول، تقوم شركات الوساطة المالية بتنفيذ صفقات عملائها خارج السوق وتسوية ذلك في البنك المركزي، ثم إعادة تنفيذ العملية في السوق لصالحها بسعر أعلى بكثير من سعر الصفقة الرئيسية.
مثالا على ذلك ما تعرض له مستثمر هندي عندما باع أسهمه في إحدى الشركات بقيمة 30 سنتا أمريكيا ثم فوجئ بأن الوسيط المالي قام بإعادة بيعها بسعر السوق بـ 2.15 دولار أمريكي. بشكل عام، فإن ما نسبته نحو 80 في المائة من الصفقات التي نفذت في عام 1997م تمت بهذا الأسلوب.
عمدت شركات الوساطة المالية إلى ممارسة أسلوب آخر يسمى "نشر التقارير"، حيث تقوم شركة الوساطة المالية انطلاقا من طبيعة عملها بنشر توصية رسمية حول شركة مدرجة. يسبق ذلك الأسلوب عملية تجميع السهم لصالح الشركة. وبعد نشر التقرير، تقوم الشركة بتصريف السهم بعد تسجيله لقياسات عالية غير مبررة.
فعلى سبيل المثال، أصدرت شركة الوساطة المالية أتون هاوس في أيلول (سبتمبر) 1997م توصية على أسهم شركة كازان لصناعة طائرات الهيلكوبتر بعد أن تملكت جزءا ليس بالقليل من أسهم شركة كازان قبيل نشر التوصية. قامت شركة أتون هاوس ببيع حصتها بعد شهرين من نشر التوصية بصافي ربح تعدى 100 في المائة. لم تستطع شركة كازان الاستمرار في تسجيل أرقام قياسية بعد أن تم استبعادها من نظام التداول بسبب عدم تحقيقها إلا أدنى مستويات الإدراج.
ساهمت مثل هذه الممارسات وغيرها كـ "بيع الغسيل" و"الجري الأمامي" بشكل كبير في استمرار سوق موسكو في تقديم نتائج متواضعة. فعلى الرغم من حجم الاقتصاد الروسي، وتحسن القيمة السوقية للسوق، إلا أن مؤشرات السوق في عام 1997م لم تكون بحجم التوقعات. فمثلا، لم تتعد القيمة السوقية مائة مليار دولار أمريكي فحسب. ولكن أيضا بلغ المعدل السنوي لدوران السهم 0.10 عملية لكل سهم، مقارنة بالمعدل السنوي لأسواق المال العالمية، البالغ 2.25 عملية لكل سهم.
يعتبر سوق موسكو مثالا يجب الحذر منه عندما تنشأ ازدواجية المصالح بين أعضاء السوق، وما يتبعها من انعكاسات سلبية على السيولة والفعالية. فالفصل بين التعاملات الأخلاقية وغير الأخلاقية في أسواق المال الناشئة مهمة ليست باليسيرة تبدأ بتغيير الازدواجية إلى الفردية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي