الدهشة الغربية أمام حضور الإسلام وصعوده في مجتمعاتنا

من يقرأ أو يشاهد أو يستمع لوسائل الإعلام الغربية خلال الفترة الأخيرة، وبخاصة بعد فوز كل من "حما س" في فلسطين والإخوان المسلمين في مصر في الانتخابات التشريعية، يلاحظ مدى التخوف الذي يجتاح كثيراً من الأوساط الغربية من هذا التقدم السريع المتصاعد للحركات الإسلامية السياسية. وإلى جانب هذا التخوف الذي لا يخفى على أحد، يوضح تأمل وسائل الإعلام الغربية أنها تبدو مندهشة ومتفاجئة من هذا الوجود والأهمية التي يتخذها الإسلام وبعض الحركات المنتسبة إليه في مختلف المجتمعات الإسلامية.
وقد زادت تلك الدهشة الغربية مع اندلاع مظاهرات المسلمين في شتى أنحاء العالم احتجاجاً على الرسوم الدنماركية التي أساءت إلى رسولهم الكريم، صلى الله عليه وسلم، واتهمتهم جميعاً بالإرهاب سيراً على نهجه.
والحقيقة أن تلك الدهشة الغربية سواء على الصعيد الإعلامي أو السياسي تعكس قدراً أكبر من غياب المعرفة بحقيقة موضع الإسلام من المجتمعات والدول المسلمة ومن ثقافة شعوبها وقيمهم وتقاليدهم. فهذا الإسلام الذي يبدو اليوم بالنسبة لكثير من الغربيين كوافد جديد طارئ على تلك المجتمعات والدول والشعوب، لم يغب في حقيقة الأمر عنها يوماً واحداً، وكل ما في الأمر أنه يتخذ ما بين فترة وأخرى صوراً مختلفة للظهور الواسع، تعد الحركات الإسلامية السياسية هي الأبرز منها خلال ربع القرن الأخير. وقد ظل الإسلام بكثير من أوجهه حاضراً حتى في ظل نظم سياسية شاع عنها وأشيع حولها أنها ليست إسلامية بل ودخل بعضها في صدامات واسعة مع قوى سياسية ذات طابع إسلامي، مثلما كان الحال بالنسبة لنظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر (1952-1970) الذي اصطدم بعنف شديد وواسع مع جماعة الإخوان المسلمين.
إلا أن التأمل الأكثر دقة ليس فقط للوقائع العملية التي عرفها ذلك النظام مثل إنشاء أول إذاعة للقرآن الكريم في ظله أو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وغير ذلك من وقائع، بل وأيضاً للوثائق الرئيسية التي تبناها ذلك النظام ليعبر بها عن توجهه الفكري والسياسي، يوضح إلى أي مدى كان الإسلام حاضراً فيها. ففي كتاب فلسفة الثورة (1953) الذي يعد الوثيقة الفكرية الأولى لعبد الناصر بعد نجاح ثورته، يحدد الدوائر الثلاث التي يرى أن مصر تنتمي إليها وأن دورها الخارجي يجب أن يتوزع بينها، فيراها أولاً في الدائرة العربية وثانياً في الدائرة الإفريقية وثالثاً في الدائرة الإسلامية. ولدى حديثه عن انتماء مصر للدائرة الإسلامية يربط عبد الناصر بينه وبين الدور التحرري لمصر خلال المراحل التاريخية القديمة التي مر بها ذلك الانتماء، حيث يرى أن الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي الذي أغار عليه المغول الذين اكتسحوا عواصم الإسلام القديمة تراجع إلى مصر وأوى إليها عندما ردت غزو المغول على أعقابه في عين جالوت. وفي تلك الوثيقة يذهب عبد الناصر في تفسيره ورؤيته للإسلام كقوة تحررية وتعبوية وتوحيدية لجموع المسلمين عبر العالم الإسلامي إلى اعتبار بعض أركان وطقوس الإسلام الرئيسية مثل الحج، كما يقول، بمثابة مؤتمر سياسي دوري يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية ورجال الرأي فيها وعلماؤها في أنحاء المعرفة كافة وكتابها وملوك الصناعة فيها وتجارها وشبابها ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطاً عريضة لسياسة بلادهم وتعاونهم معها حتى يحين موعد اجتماعهم من جديد بعد عام. ويعيد عبد الناصر في الوثيقة نفسها التأكيد على رؤيته للإسلام كعنصر موحد ومعبئ للمسلمين المنتمين إليه على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم، حين يتحدث عن الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يحققها تعاون هؤلاء المسلمين جميعاً، إذا تعاونوا معاً تعاوناً لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصلية بما يكفل لهم ولإخوانهم في العقيدة قوة غير محدودة.
وفي الوثيقة الرئيسية الثانية لعبد الناصر، أي ميثاق العمل الوطني (1962)، يكتسب الإسلام بالإضافة إلى معانيه التحررية والتعبوية والتوحيدية معنى تقدمي باعتباره دين العدالة والمساواة بين البشر. فمنذ بداية تلك الوثيقة يرى عبد الناصر أن أحد عوامل نجاح نضال الشعب المصري والشعوب العربية والمسلمة الأخرى هو وجود إيمان لا يتزعزع بالله ورسله ورسالاته المقدسة التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسانية في كل مكان وزمان. ويتطرق الميثاق في عدة مواضع منه وبخاصة الباب السابع إلى الأدوار العظيمة التي قام به الشعب المصري في إطار التاريخ الإسلامي وعلى هدي من الرسالة المحمدية من أجل الدفاع عن الحضارة والإنسانية. ويؤكد عبد الناصر في الميثاق بلغة أكثر وضوحاً المعنى التقدمي للدين عموماً وللإسلام خصوصاً بتأكيده على أن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحرية والحياة، بل إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان وإن كل بشر يبدأ حياته أمام خالقه الأعظم بصفحة بيضاء يخط فيها أعماله باختياره الحر. وفي الوثيقة الثالثة الرئيسية، أي بيان 30 آذار (مارس) 1968 الذي قدمه عبد الناصر بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 القاسية، يعود الإسلام مرة أخرى لديه لكي يكتسب معاني تحررية نضالية ويبدو كقوة دافعة مهمة للصمود أمام العدوان الذي وقع على الأمة وحافزاً رئيسياً لدحره وتجاوزه. ويمضي عبد الناصر في وثيقته الثالثة الرئيسية لكي يجعل من دعم القيم الروحية والدينية واحدة من المهام الضرورية من أجل تجاوز الهزيمة وتحقيق النصر ورد العدوان على الشعب والأمة، ويدمج في نهاية الوثيقة بين إرادة الشعب المصري والشعوب العربية في تحقيق ذلك النصر وبين إرادة الله التي هي حسب تعبيره إرادة الحق التي هي فوق كل إرادة.
إذاً، فالإسلام بمختلف جوانبه ومعانيه وتفسيراته لم يغب يوماً عن مجتمعاتنا ودولنا المسلمة بما في ذلك تلك التي لم توصف "بالإسلامية" حسب التعبيرات الغربية الشائعة أخيرا. ومن هنا فإن استغراب ودهشة الإعلام الغربي مما يعتقد أنه حضور جديد مفاجئ للإسلام ليس هناك ما يبرره من وقائع حاضرة أو تاريخية، فالإسلام كان هنا وسوف يظل هنا بكل تلك الصور والجوانب والمعاني المتنوعة، وعلى من يهمه الأمر من الغربيين أن يبذل بعض الجهد في إعادة قراءة ودراسة بلداننا ومجتمعاتنا وشعوبنا فعندها سيكتشف الحقيقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي