التحكيم في العقود الإدارية (2)
أوضحنا في الجزء الأول من هذا المقال بعض الملامح القانونية الأساسية للتحكيم في عقود الدولة، والمعروفة في الاصطلاح القانوني باسم (العقود الإدارية). وأشرنا إلى أن نظام التحكيم السعودي لا يجيز للهيئات والمؤسسات الحكومية اللجوء إلى التحكيم لفض المنازعات التي تنشأ عن العقود التي تبرمها مع الغير إلا بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء. كما أشرنا إلى أن شرط التحكيم الذي يرد في صلب العقد يكون ملزماً لطرفيه وأنه لتجنب هذا الالتزام المسبق فمن الأفضل أن يترك موضوع الاتفاق على التحكيم إلى المستقبل أي بعد نشوب النزاع.
ونستكمل الحديث هنا عن هذا الموضوع، فنشير إلى أنه توجد طريقة أخرى لصياغة شرط التحكيم في العقد على نحو لا يجعله ملزماً للجهة الحكومية، وهذه الطريقة هي أن ينص في العقد بأنه في حالة نشوء نزاع بين الطرفين حول تنفيذ أو تفسير العقد فإن الجهة الحكومية بالخيار بين إحالة النزاع إلى الجهة القضائية المختصة أو إلى التحكيم.
فالنص بهذه الطريقة يعطي الجهة الحكومية المرونة اللازمة لتقدير المصلحة العامة بعد نشوب النزاع، فتقرر في ضوء ذلك إما الذهاب إلى القضاء أو الذهاب إلى التحكيم.
ومن جهة أخرى، فإنني أقترح أن نأخذ في النظام السعودي بالاتجاه الذي يميز بين العقود الداخلية والعقود الدولية بحيث تعدل المادة (3) من نظام التحكيم السعودي على نحو يفرق بين عقود الدولة الداخلية وعقودها ذات الطابع الدولي، أي التي تبرم مع أطراف أجنبية، فيحظر اللجوء إلى التحكيم في العقود الداخلية لأن المنازعات الناشئة عنها تظل ضمن الاختصاص الانفرادي لديوان المظالم، أما العقود ذات الطابع الدولي فيجوز إدراج شرط التحكيم فيها بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء.
ولحماية حقوق الدولة والمحافظة على الخصائص الذاتية للعقود الإدارية وما تتمتع به الجهة الإدارية (أي الجهة الحكومية) من سلطات وامتيازات فإنه يتعين، قبل الالتزام بشرط التحكيم، أن تتضمن هذه العقود الشروط التي تتفق مع نظرية العقد الإداري.
ولضمان تجنب الجهة الإدارية احتمال أن تطبق هيئة التحكيم على العقد أحكام قانون أجنبي فإنه يتعين أن ينص بشكل واضح وصريح في العقد بأنه يخضع في تنفيذه وتفسيره لقانون الدولة وأنه لا يجوز تطبيق أي قانون أجنبي، لأن كثيراً من الأضرار التي أصابت دول العالم الثالث جراء أحكام التحكيم الدولي الصادرة في منازعات العقود، كان يرجع أحيانا إلى عدم عناية تلك الدول بصياغة شرط القانون الواجب التطبيق على العقد عناية كافية فتفاجأ الدولة المعنية باستبعاد قانونها وتطبيق قانون أجنبي على المنازعة. وتأكيدا لوجوب تطبيق القانون الوطني على العقد فإنه ينبغي أن ينص في العقد أنه إذا لم تحترم هيئة التحكيم القانون المختار من قبل طرفي العقد فإن حكمها يعتبر باطلا ولا أثر له. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يرد أحياناً في بعض العقود التي تبرمها بعض دول العالم الثالث مع أطراف أجنبية، شرط يسمى (شرط الثبات التشريعي) حيث ينص صراحة في العقد على أن القانون الذي يسري على العقد هو قانون الدولة المتعاقدة بأحكامه وقواعده النافذة فقط وقت إبرام العقد مع استبعاد أية تعديلات لاحقة تطرأ عليها، وترى ثلة من الفقهاء أن شرط الثبات التشريعي متى ورد في عقد من عقود الدولة كان ذلك قرينة على أن هذا العقد هو من قبيل عقود القانون الخاص وليس القانون العام لأن الدولة تتنازل بهذا الشرط عن السلطات التي تتمتع بها في مواجهة الطرف الأجنبي المتعاقد معها، والتي تميز العقود الإدارية. ولكن غالبية الفقهاء يرفضون هذا الرأي ويرون أن شرط الثبات التشريعي هو من قبيل الشروط الاستثنائية التي تؤكد الطبيعة الإدارية للعقد لأن الدولة عندما تقبل هذا الشرط لا تتنازل بذلك عن السلطات التي تتمتع بها في مواجهة المتعاقد معها وإنما يعتبر ذلك دليلاً واضحاً على أن العقد يحتوي شروطاً استثنائية غير مالوفة في عقود القانون الخاص، لأن أحد أطراف هذه العقود لا يملك أن يتعهد للمتعاقد الآخر بعدم تعديل التشريعات السارية وقت إبرام العقد نظراً لأن هذا الأمر لا تملكه إلا السلطة التشريعية التي أصدرت تلك التشريعات. وقد أقرت أحكام التحكيم الدولي رأي أغلبية الفقهاء، مقررة أن احتواء عقود الدولة على شروط الثبات التشريعي لا يخل بطبيعتها الإدارية. كذلك ينبغي أن ينص في العقد أيضاً بأن يجري التحكيم في إقليم الدولة وطبقاً للقواعد والإجراءات المنصوص عليها في قانون التحكيم الوطني، أي أن يكون التحكيم داخلياً.
وإذا اقتضت المصلحة العامة الموافقة على أن يكون التحكيم أمام مركز أو هيئة تحكيم في الخارج، فإن من الأفضل أن تعطي الأولوية مراكز التحكيم العربية مثل مركز التحكيم التجاري التابع لمجلس التعاون الخليجي أو مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي. ومن ناحية أخرى فقد ظهر اتجاهان بشأن مدى تمسك الدولة بحصانتها ضد إجراءات تنفيذ حكم التحكيم، حيث ذهب الاتجاه الأول إلى أن شرط التحكيم لا يعني في حد ذاته تنازل الدولة عن التمسك بحصانتها القضائية أمام القضاء الوطني لدولة أخرى ومن ثم فإن خضوع المنازعة التي تكون الدولة طرفاً فيها للتحكيم لا يؤدي إلى تنازل هذه الدولة عن حقها في التمسك بحصانتها ضد إجراءات التنفيذ، إلا أن هذه الحصانة ليست مطلقة إذ يجوز استبعادها عندما تكون الأموال المطلوب التنفيذ عليها مخصصة لنشاط تجاري أو اقتصادي من الأنشطة التي يحكمها القانون الخاص. أما الاتجاه الثاني فيذهب إلى أن قبول الدولة لشرط التحكيم في أحد عقودها المبرمة مع أي جهة أجنبية يعد قرينة قاطعة الدلالة على تنازلها عن حصانتها ضد إجراءات التنفيذ، فشرط التحكيم يعني التنازل عن الحصانة أمام محكمة الدولة المطلوب منها إصدار الأمر بالتنفيذ، لأن قبول الدولة اللجوء إلى التحكيم سيكون فارغاً من أي معنى إن هي استطاعت أن تدفع بحصانتها لتمنع تنفيذ حكم التحكيم الصادر ضدها.
وصفوة القول أن الأبعاد الدولية التي تصاحب شرط التحكيم في عقود الدولة مع المؤسسات والشركات الأجنبية، تجعل من الضروري قبل الموافقة على هذا الشرط تقدير مدى ملاءمة هذا الشرط لمصلحة الدولة في كل عقد على حدة، والتأكد من احتواء العقد على جميع النصوص التي تحفظ مصالح وحقوق الدولة.