Author

إمكانية الاستغناء عن إيرادات النفط خلال 20 عاما

|
منذ عقود طويلة والدول الغربية تحاول أن تجد مصادر بديلة للطاقة تغنيها عن النفط العربي، فالدول التي استطاعت أن تستحوذ على مقدرات العالم، وأن تكون المصدر الرئيس لمعظم المنتجات العالمية، الحربية منها والمدنية، لم تتمكن حتى اليوم من كسر الطوق الأخير الذي يربطها بالدول المنتجة للنفط. هي إرادة الله في كونه، فسبحانه وتعالى يقدّر الأقدار ويصرّف الأمور بدقة متناهية. يقسم الأرزاق، ويهب كل أمة ما يميزها عن الأخرى دون أن تحقق الاكتفاء الكلي ما يجعلها في حاجة إلى الأمم والشعوب الأخرى. يستثنى من ذلك، من فضل الله من الأمم السالفة، كملك سيدنا سليمان عليه أفضل الصلاة والتسليم، الذي لم يكن لأحد من قبله. إذا كان الغرب يجتهد في وضع استراتيجياته المتوافقة مع التفكير البشري ضد مصالح هذه الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى هو المتصرّف الحقيقي في تسيير الأمور ضمن حكمة لا يعلمها إلا هو، فهو القادر على تسخير تلك الاستراتيجيات لمصلحة الأمة التي أُريد بها شرا. أليس من الغريب أن تعجز الشركات البريطانية، إبان السيطرة البريطانية على العالم العربي، عن اكتشاف النفط في حقول المنطقة الشرقية المتخمة، ثم تنجح في استخراجه من حقول البحرين الناضبة!! وكأنما أُريد لها أن تبقى بعيدة عن المنطقة. إنها إرادة الله سبحانه وتعالى التي حفظت هذه البلاد من خطط الاستعمار، فلو قدّر للشركات البريطانية أن تكتشف النفط بكمياته التجارية الضخمة في ذلك الوقت، لجعلت من المنطقة مركزا لا يمكن هزيمتها فيه بسهولة. لكن إرادة الله سبحانه وتعالى شاءت أن يعجز البريطانيون عن اكتشاف النفط، ثم هيأت للشركات الأمريكية اكتشافه بعد دخول الملك عبد العزيز المنطقة وبسط نفوذه عليها. إنه توازن القوى الذي هيأه الله سبحانه وتعالى للأمم، فأمريكا لم تكن في ذلك الوقت، ذات نفوذ مسيطر على العالم، أسوة بالبريطانيين، لكنها لم تكن بالضعف الذي يسمح للبريطانيين بانتزاع مناطق الامتياز التي تبلغها. القدرة الإلهية هي التي حفظت هذه البقعة الطاهرة من نفوذ الإنجليز القوي قبل توحيد الملك عبد العزيز، يرحمه الله، للمملكة. استراتيجيات توازن القوى، وبناء المصالح، وحاجة الشعوب بعضها إلى بعض رسمها الله جلّت قدرته بحكمته وعلمه الذي وسع كل شيء. ومع إيماننا التام بقدرته وتصريفه للأمور، إلا أننا نؤمن بأننا مطالبون ببذل الأسباب، والجد والاجتهاد في العمل، وإعمار الأرض، وحماية أنفسنا ومقدراتنا من الأخطار المحدقة، ومواجهة كل من يسعى في دمار الأمة بكل حزم وقوة. من تلك الأخطار التي يستوجب على الأمة مواجهتها، ما صدر عن الرئيس الأمريكي من تصريحات أبدى فيها رغبته في التخلص من الإدمان الأمريكي لنفط الشرق الأوسط، مع تأكيده على أنه، بوجود قيادته "سوف يجعل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط شيئا من الماضي". تلك التصريحات يمكن اعتبارها تهديدا مباشرا لأمننا الاقتصادي الذي يعتمد في موارده المالية على تصدير النفط الخام. في الغرب ينظرون إلى كل ما يهدد سلعهم الاستراتيجية على أنه تهديد مباشر لدولهم، فيقفون بحزم أمام أي تصرف، مهما صغر حجمه، يمكن أن يقود مستقبلا إلى تكوين جبهة مضادة لمنتجاتهم الاستراتيجية. عندما بدأت المقاطعة الشعبية للمنتجات الدنماركية ارتفعت أصوات الاقتصاديين والقانونيين في الغرب منددة بهذا الإجراء الشعبي الذي يهدد تجارة عضو في الاتحاد الأوروبي، معتبرة المقاطعة عملا لا تقره قوانين التجارة العالمية. أما الولايات المتحدة الأمريكية فإنها تستخدم الأسلوب التهديدي مع الدول المنتجة للنفط ومنظمة أوبك، من أجل مصالحها الخاصة وتحقيقا لمبدأ الأمن الاقتصادي، فهي تضغط على الدول المنتجة من أجل زيادة الإنتاج وخفض الأسعار، في الوقت الذي لا تكف فيه عن المطالبة بين الحين والآخر بتفكيك منظمة أوبك التي تعتقد أنها (تكتل احتكاري) لا يمكن السكوت عنه. كل تلك الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب تتم من خلال خطط استراتيجية هدفها حماية اقتصاديات الدول الغربية من التحديات العالمية. هي حرب اقتصادية غير مسلحة، لها من أدوات التدمير ما يفوق الأسلحة التدميرية المتطورة، تسخر من أجل البقاء والسيادة، والبقاء لا يمكن أن يربط بالأرض فقط، بل يتجاوزه إلى الأمن الغذائي والمائي والاقتصادي. ألا يدفعنا مثل هذا إلى تبني تطبيق نظرية المعاملة بالمثل؟ أو أن نفكر مليا في أمننا الذي يحاول الغرب أن ينال منه؟ تصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة، ومخططات السويد الرامية إلى التحرر الكلي من واردات النفط تبعث رسائل تطمينية لشعوبهم، وتؤكد أنهم ساعون في دراساتهم الرامية إلى التحرر الكلي من الهيمنة النفطية لدول الشرق الأوسط. تلك الرسائل التطمينية يجب أن ينظر إليها في السعودية على أنها رسائل تحذيرية يستدعي التعامل معها بكل جدية وحزم. فأمريكا أكثر العارفين بأهمية النفط واستحالة الاستغناء عنه في الوقت الحالي عوضا عن السنوات القادمة التي ستشهد نموا متزايدا في الطلب على المنتجات النفطية، وبسبب معرفتها الاستراتيجية الحالية والمستقبلية، أٌقدمت على غزو العراق واحتلال آباره التي سوف تضمن لها إمدادات نفطية بأسعار تفضيلية. هي لم تأت من أجل الديموقراطية أو من أجل حماية الشعب العراقي كما يزعمون. بل جاؤوا من أجل حماية أنفسهم، وتأمين مصادر النفط وسلامة استمراريته، ولا شيء سواه. ألا يدفعنا مثل هذا الطرح والتحليل إلى التفكير المتعمق في النوايا التي يغلفها الخطاب الأمريكي الأخير؟ يجب ألا نركن للتحليل السطحي لاستراتيجية النفط الأمريكية، فالتجارب أثبتت عمق الاستراتيجيات التخريبية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية، واستراتيجية الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط، إنما عنيت بها السعودية على وجه الخصوص. والنفط لم يكن إلا وسيلة لتحقيق الغايات الاستراتيجية بعيدة المدى، وهو ما يفرض على السعوديين وضع استراتيجية مضادة للاستراتيجية الأمريكية تقوم على مبدأ التحرر من الإيرادات النفطية خلال الـ 20 عاما القادمة. أمر كهذا لن يكون عسيرا، بل هو تحد من أجل البقاء. يمكن للسعودية أن تتخذ قرارا بتنحية ما يعادل 20 في المائة من إيراداتها النفطية السنوية لمدة عشرين عاما تقوم خلالها باستثمار تلك الأموال لضمان الحصول على موارد مالية مستقلة تمكنها من الاستغناء عن نسبة لا يستهان بها من الإيرادات النفطية. لعلنا نتذكر "حساب الأجيال القادمة" في دولة الكويت الذي حقق في سنواته الأخيرة وقبل الغزو العراقي إيرادات سنوية عادلت في مجملها الإيرادات النفطية الكويتية. لم يرق ذلك الوضع الاستثماري المريح الذي شهدته الكويت لأعداء الأمة الذين مكروا من أجل تبديد الثروات وامتلاك زمام السيطرة. لن يكون مستقبل الأجيال القادمة مطمئنا ما لم تتضافر الجهود من أجل خلق موارد مالية مستقلة عن الموارد النفطية، فلدى السعودية الكثير من مصادر الدخل غير المفعلة، والكثير من القطاعات الاقتصادية غير المطروقة تمثل في مجملها موارد مستحدثة لموازنة الدولة؛ إضافة إلى قطاع ضخم للاستثمارات العامة يمكن من خلاله تعظيم أرصدة الدولة وخلق إيرادات مالية قد تناهز في مجملها 40 في المائة من مجمل الإيرادات النفطية. يمكن من خلال الصناعة والاستثمار تحقيق التوازن المنشود في إيرادات الدولة، وزيادة معدلات النمو وتطوير المجتمع بأكمله، وأمثلة النجاح واضحة للعيان، نجدها في اليابان التي أسست لها قاعدة صناعية غزت من خلالها العالم وهي الدولة التي تستورد مجمل احتياجاتها النفطية، ومكونات صناعاتها الأساسية من الخارج. الأمر نفسه ينطبق على بعض الدول الآسيوية، والهند، وغيرها من دول العالم الأخرى. دول فقيرة في مصادر الطاقة وفي مواردها المالية إلا أنها استطاعت أن تحاكي الغرب في نهضته، وأن تشق لها طريقا منافسا في الصناعات التكنولوجية والحربية والمالية وربما غزو الفضاء في القريب المنظور. في مثل هذه الظروف غير الاعتيادية، ومع توافر الفوائض المالية الضخمة، يمكننا أن ننجح في تحقيق أهدافنا الاستراتيجية وتأمين حياة أفضل لأجيالنا القادمة من خلال الاستغلال الأمثل للثروات المتاحة، ومن خلال تأسيس الصناعات وتنمية القطاعات الاستثمارية التي ستعيننا، بإذنه تعالى، على التحرر التدريجي من الاعتماد على الإيرادات النفطية في مدة زمنية قد تقل عن العشرين عاما.
إنشرها