الجريمة.. تعريفها وأنواعها

استرعى انتباهي في مناسبات عديدة عند الكلام عن الجريمة أو النقاش حول أنواعها أن هناك من يقصرها على نوع واحد من الجرائم وهو الجناية، أو يرى أن ما يطلق عليه مخالفات ليس من الجرائم, ويكاد يترسخ هذا الفهم عند عدد ممن تناقشت معهم في مناسبات متعددة مما جعلني أفكر في كتابة مقال حول الجريمة من حيث تعريفها وبيان أنواعها والاختلاف حول هذا التنوع في القوانين الوضعية أو ما يطلق عليه بعض الكتاب (فقه القانون الوضعي) (1), وكذلك في الفقه الإسلامي, وذلك لتعم الفائدة بإيضاح مختصر يبين تلك الاختلافات مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح.
فالجريمة مشتقة من الجرم وهو الاعتداء على مصلحة أو حق يحميه الشرع أو النظام (القانون)، وقد ورد لها ذكر في القرآن الكريم في عدد من الآيات نورد منها قوله جل من قائل: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) ( 2), وقوله تعالى (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) (3), وقوله عز من قائل (إن المجرمين في ضلال وسعر) (4), وقوله سبحانه وتعالى (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) (5), والقرآن الكريم أورد السلوك الإنساني المنحرف عن الطريق القويم وهو الإجرام في قواعد مبينة الجرم والعقاب بالنسبة للحدود والقصاص والديات وما عدا ذلك من الجرائم التعزيرية، فإن ولي الأمر يقوم بسن الأنظمة المحددة للجرائم وعقوباتها وفق مقتضيات الصالح العام التي تحمي الإنسان في المجتمع.
وبعد هذا التمهيد الموجز نورد تعريف الجريمة بأنها (سلوك إنساني منحرف يمثل اعتداء على حق أو مصلحة من الحقوق أو المصالح التي يحميها الشرع أو القانون الصادر بناء عليه) (6).
وبتعريف أكثر دقة فإن الجريمة (كل سلوك إنساني غير مشروع إيجابياً كان أم سلبياً عمدياً كان أم غير عمدي يرتب له القانون جزاء جنائياً) (7), وعلى أساس هذا التعريف وما قبله نجد أن الجريمة تعد سلوكاً إنسانيا معوجا عن الطريق المستقيم باعتباره فعلاً غير مشروع لأنه يمثل اعتداء على حق من الحقوق أو مصلحة من المصالح التي يحميها الشرع الحنيف أو النظام (القانون) الذي سنه ولي الأمر, ويستوي أن يكون الفعل إيجابياً أو سلبياً أو عمدياً أو غير عمدي, وتعريف الجريمة كما يروى عن الماوردي (أنها محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير, والحد والتعزير هو العقوبة المقررة شرعاً ...) (8), وعلى هذا الأساس فإن التعريف للجريمة بعموميتها في الفقه الشرعي الإسلامي يتفق مع التعريف في فقه القانون الوضعي, وليس ثمة اختلاف يذكر إلا في كلمة أو عبارة من العبارات المترادفة نظرا لغزارة اللغة العربية, ولذا يحرص الباحثون والدارسون على تقريب وجهات النظر، ومن الأهمية بمكان أن يقوم الباحث أو الدارس في الفقه الإسلامي بدور واضح ليقدم لرجال القانون دراسات وبحوث تقترب من منهجهم وأسلوبهم (9), وبالنمط نفسه يفعل الباحث والدارس في القانون الوضعي إذا ما أراد مقارنة القوانين الوضعية بأحكام الشريعة الإسلامية في مجال التجريم والعقاب, وأحسب أن ذلك ليس بعسير على الباحث والدارس المتمكن المطلع ذلك لأن الشريعة الإسلامية برأي جمهور الفقهاء تتسع أحكامها لكل جوانب الحياة.
وإذا انتقلت إلى الحديث عن أنواع الجريمة فهذا فيه اختلاف في الرأي لأنه يعتمد على الاجتهاد الذي دائما ما يكون محل اختلاف قد يكون مفيداً, أو كما قيل فيه مصلحة للتيسير وإتاحة الفرصة لكل مفكر أن يطرح رأيه ففي أغلب القوانين الوضعية تقسم الجرائم إلى ثلاثة أقسام جنايات وجنح و مخالفات وهو ما أخذت به أغلب الدول (10), ويكاد يترجح الأخذ به من قبل كثير من الباحثين والدارسين على أساس أنه يعد تنويعاً على أساس جسامة الجريمة فإن كانت من الجرائم الجسيمة جداً تعد جناية وإن كانت أخف في الجسامة تعد جنحة, ويلي ذلك الجريمة الخفيفة التي يطلق عليها مخالفة غير أن السائد لدى بعض المجتهدين في المملكة أنهم يرون أن المخالفة ليست من الجرائم، أنها تستقل بهذا الاسم عن مسمى الجريمة, وبهذا الرأي تكون الجريمة وكأنها مرادفة لمسمى الجناية إذ سيان أن يطلق عليها الدارس أو الباحث جريمة أو جناية فمثلا نجد أحد المؤلفين وهو يتكلم عن اختصاص رئيس قسم المباحث الجنائية (الشعبة الجنائية) بأن من اختصاصاتها (التحقيق في القضايا الهامة والجنايات) (11), وهكذا يعتبرون الجريمة والجناية هما تلك الجرائم الجسيمة أو ما توصف بالكبيرة, أما الجرائم التي توقع فيها تعزيرات خفيفة فهي جرائم صغيرة, وإذا ما رجعنا إلى نظام الإجراءات الجزائية الذي صدر عام 1422هـ, نجد أن واضعيه قد تأثروا بما هو سائد في استخدام مصطلح الجريمة أو الجناية في صياغة بعض النصوص فقد وصف رجال الضبط بالجنائي نسبة إلى الجناية, وأعمال الضبط الجنائي والوقائع الجنائية و التلبس بالجريمة (12), وحسب التنوع نجد ذكر الجرائم الكبيرة في أكثر من موضع في بعض النصوص بل قيل في المادة 112 بأن (يحدد وزير الداخلية بناء على توصية رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام ما يعد من الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف) (13), ومعنى هذا فإن النوع الثاني هو الجرائم الصغيرة التي وصفت بقضايا التعزيرات وأروش الجنايات أو الجرائم الأخرى (14), وبالتالي أخرجت المخالفات من الوصف التجريمي على خلاف ما هو عليه في تقسيم الجريمة إلى ثلاثة أقسام كما سبق ذكره في أغلب قوانين الدول, وكنت ألحظ ذلك في مناسبات عديدة, وأبدي الرأي بأنه من المناسب الأخذ بما هو عليه العمل في كثير من الدول حتى يكون هناك توافق واتساق يأخذ نمط التطوير في أمور اجتهادية بدون المساس بالقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنة من حيث تحديد العقوبات على بعض الجرائم الجسيمة التي يطلق عليها جنايات, والجناية وفق الاصطلاح الفقهي (اسم لفعل محرم شرعاً سواء وقع الفعل على نفس أو مال أو غير ذلك) (15), وكما قال الشيخ عبد القادر عودة في مؤلفه المقارن (وتتفق أحكام جرائم القتل والجرح والضرب في الشريعة الإسلامية مع أحكامها في القوانين الوضعية فيما يختص بأركان الجريمة وصورها والأفعال المختلفة المكونة لها, ولا تكاد الشريعة تختلف عن القوانين إلا في نوع العقوبة التي يقررها كل منهما لهذه الجريمة) (16)، وهذا الكلام يعد صحيحاً إذ الجرائم وتنوعها حسب الاجتهاد من الباحث والدارس في الشريعة الإسلامية يتفق مع القوانين الوضعية إلا في تحديد العقوبة والشريعة الإسلامية أسبق من القوانين الوضعية التي هي متغيرة ومتطورة لأنها من وضع البشر ويحاولون أن تبلغ ما بلغته الشريعة الإسلامية التي نزلت منذ أربعة عشر قرنا, ولذا نجد الشيخ عبد القادر عودة في تقديمه للمؤلف يقول: (ولكني أقارن حين أقارن بين القانون في عصرنا الحاضر وبين الشريعة, وحين أفعل هذا إنما أقارن بين قانون متغير متطور يسير حثيثاً نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال وبين شريعة نزلت من ثلاثة عشر قرناً لم تتغير ولم تتبدل فيما مضى ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل, شريعة تأبى طبيعتها التغيير والتبديل لأنها من عند الله ...) (17), وبعد هذا السياق الذي أوردته من مؤلف الشيخ عبد القادر عودة أجزم أن لا مجال للاجتهاد فيما هو من القواعد الكلية المحددة لجرائم الحدود والقصاص وعقوباتها. وأن الاجتهاد يقتصر على المسميات لأنواع الجرائم حسب جسامتها من جناية وجنحة ومخالفة وخصوصاً عند سن الأنظمة التي يصدرها ولي الأمر في تجريم بعض الأفعال, وما سبق أن صدر من أنظمة يحدد فيها بعض الجرائم وقد تكون مما يطلق عليه جناية أو جنحة أو مخالفة, ويجري تحديثها, وجسامة الجريمة يحدد على أساسها مستوى العقوبة لأن هناك تلازما بين الجريمة والعقوبة فكلما كانت الجريمة شديدة وذات انتهاك وترويع كلما كانت العقوبة أشد حتى في العقوبات التعزيرية المدونة في جرائم الرشوة والتزوير وإصدار الشيك بدون رصيد, والاتجار والترويج بالمخدرات وتعاطيها, والجرائم الجمركية, وغير ذلك مما صدر به أنظمة. وكنا نتمنى لو تم تدوين أحكام التعزيرات الأخرى حتى لا يكون هناك تباين في الأحكام القضائية التي تصدر، وهناك دعوات عديدة كتب عنها في الصحف والمجلات, وفي المنتديات ومنها (منتدى الرياض الاقتصادي الأول)، الذي عقد في مدينة الرياض عام (1424هـ/ 2003م) في الورقة المقدمة عن (البنية التشريعية والقضائية في المملكة العربية السعودية) إذ جاء من ضمن التوصيات الدعوة الواضحة من أجل (المبادرة إلى تدوين الفقه المطبق في المحاكم وفق المعايير الفقهية المعمول بها في المملكة, وتعيين التدوين كمرجع للقضاء, ووضع توصيف فقهي محدد للجرائم ومعايير للعقوبات في المحاكم الشرعية, وتعيين جهاز فني دائم في وزارة العدل للقيام بأعمال التدوين, وتستشرف آراء المختصين في الجامعات والمحاكم والمحامين والإدارات القانونية في التدوين بعد صياغة منهجيته ومعاييره) (18), ولذا نسأل الله العلي القدير أن يوفق ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبد العزيز في الإصلاحات المطردة التي تتم بعد دراسات متأنية وبخطوات متزنة ومن ذلك إن شاء الله إصدار توجيهاتهما بعمل هذا التدوين (التقنين) حتى لا يكون هناك مجال للأدعياء المتربصين الناقدين عندما يقولون بأنه لا يوجد لدينا قانون مكتوب, وأن الأحكام القضائية تصدر باجتهادات متباينة, وما أكثر ما يقال, والله الموفق إلى الطريق القويم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي