بن لادن والقضية الفلسطينية.. أين الحقيقة؟

في كل مرة يظهر فيها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ليلقي إحدى كلماته أو خطبه الجديدة يلحظ المراقبون تطرقه الدائم بصورة من الصور إلى القضية الفلسطينية. وقد اختلف هؤلاء المراقبون في حقيقة موضع هذه القضية في اهتمامات بن لادن ورؤاه إلى حد بعيد، حيث رأى البعض أنها مقحمة عليه وأنه يستخدمها فقط كوسيلة للتحريض، فيما رأى البعض الآخر أنها جزء أصيل من رؤيته العامة المتشددة يصعب فصلها عنها. ولحسم طبيعة تلك الرؤية وهذا الموضع كان لا بد من العودة إلى كل الكلمات والأحاديث الصحافية والخطب والرسائل المنسوبة لبن لادن في دراسة متأنية لها. وتوضح النتائج الرئيسية لتلك الدراسة المطولة أن قضية فلسطين والصراع الدائر حولها منذ نحو قرن قد استحوذت على اهتمام خاص وقديم منه، وأنها قد وردت تقريباً في كل ما هو معروف من تلك الأشكال والصور التي توزع بينها خطاب بن لادن. وقد تبلور هذا الاهتمام من جانب زعيم تنظيم "قاعدة الجهاد" في صورة رؤية متكاملة لها جوانب ومحاور مختلفة بدت واضحة المعالم منذ أن تطرق خطابه إلى قضية فلسطين بكل أبعادها، بغض النظر عن صحة أو خطأ هذه الرؤية. والمقصود بمفهوم الرؤية هنا هو الطريقة التي يدرك بها أسامة بن لادن القضية الفلسطينية والصراع الدائر بسببها وحولها مع عدة أطراف مباشرة وغير مباشرة في مقدمتها الدولة العبرية، وذلك عبر مختلف الأبعاد والجوانب المكونة لهذه الطريقة في النظر والإدراك.
ويؤكد تحليل مضمون كل الوثائق العربية والإنجليزية المنسوبة لبن لادن والمتاحة أنه قد تطرق في غالبيتها العظمى بصورة من الصور إلى القضية الفلسطينية. فمن بين الوثائق العربية والبالغ عددها 29 وثيقة لم يغب ذكر القضية الفلسطينية سوى عن ثلاث منها فقط. وبذلك تكون القضية الفلسطينية قد وردت في 26 وثيقة أخرى معروفة لبن لادن باللغة العربية، أي بنسبة تقترب من 90 في المائة من إجمالي تلك الوثائق. وكانت القضية الفلسطينية أكثر حضوراً في وثائق بن لادن باللغة الإنجليزية، حيث أتى على ذكرها في الـ 11 وثيقة المتاحة منها، أي بنسبة 100 في المائة منها. وبتلك النتائج يظهر أن اهتمام أسامة بن لادن بالقضية الفلسطينية لم يكن جديداً ولا طارئاً بل استمر حاضراً في الغالبية الساحقة من الوثائق المنسوبة إليه منذ أولها في بداية التسعينيات تقريباً وحتى آخرها في نهاية عام 2004. وتوضح قراءة تلك الوثائق أن هذا الاهتمام لم يكن بنفس الدرجة فيها جميعاً، بل اختلف من واحدة منها لأخرى وذلك بحسب السياق الذي أحاط بها والظروف التي رافقت صياغتها وظهورها. وبنظرة كلية على كل الوثائق العربية والإنجليزية الخاصة بأسامة بن لادن يتضح أن معدلات تكرار المصطلحات الرئيسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية كانت كبيرة، سواء كانت اسم فلسطين والمصطلحات المشتقة منه مثل "فلسطيني" و"فلسطينية" و"فلسطينيين"، أو إسرائيل ومشتقاتها مثل "إسرائيلي" و"إسرائيليين" و"إسرائيلية"، أو صهيون ومشتقاتها مثل "صهيوني" و"صهيونية" و"صهاينة"، أو يهود والمصطلحات المشتقة منها.
بذلك، فإن الوثائق المتاحة المنسوبة لأسامة بن لادن باللغتين العربية والإنجليزية توضح أنه قد اهتم بالقضية الفلسطينية بصورة واضحة ومنذ وقت طويل، وهو ما أكده ورودها في الغالبية الساحقة من تلك الوثائق وأبرز حجمه معدل تكرارات المصطلحات والكلمات المرتبطة بهذه القضية في تلك الوثائق.
كذلك يبدو واضحاً من وثائق بن لادن أنه يتبنى مفهوماً مركباً وفي الوقت نفسه بسيطاً للصراع مع إسرائيل التي لا تظهر بمفردها مطلقاً كطرف وحيد مواجه للطرف الإسلامي فيه، فهناك دوماً طرف أو أطراف أخرى تقف إلى جانبها. كما يظهر واضحاً في هذا السياق أن بن لادن يؤمن بصورة لا تقبل الشك بمفهوم "صراع الحضارات" الذي يعيد صياغته بطريقته عبر مفاهيم ومصطلحات دينية. وهذا الصراع الدائم المستمر الأوسع من الصراع مع إسرائيل والذي يعد الأخير مجرد جزء منه أو حلقة فيه، هو عند بن لادن "سلسلة طويلة من الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي" اندلعت ضد العالم الإسلامي منذ قرون بعيدة، وهي حروب كلها حسب بن لادن، بما فيها الحرب مع الدولة العبرية، ذات طابع ديني لا يقبل الجدل حوله.
إذاً نحن إزاء تصور لصراع ذي طابع ديني بالأساس يتسم بعدة خصائص تبدو موزعة على عديد من وثائق بن لادن. فهذا الصراع أولاً قديم ممتد إلى عمق بعيد في التاريخ الإسلامي وليس حديث النشأة مع قيام دولة إسرائيل عام 1948، فهو كما يعتقد بن لادن قد بدأ مع الحروب الصليبية التي استمرت لنحو قرنين من الزمان (1099-1291 ميلادية). كذلك فهذا الصراع القديم الممتد المتجدد ذو حلقات متتابعة كلها مرتبطة ببعضها، يعد الصراع مع دولة إسرائيل واليهود عموماً الحلقة المعاصرة فيها، وهي تشترك مع أولى حلقاته، أو الحملات الصليبية الأولى، في أن هدفها الرئيسي هو منطقة فلسطين والمشرق العربي عموماً والقدس بصفة خاصة. وعلى الرغم من وضوح بن لادن في وجود بعد "يهودي" في ذلك الصراع، فجوهر الصراع المستمر منذ القرن الحادي عشر وحتى اليوم هو أنه "صليبي"، وهو الأمر الذي لا يتنافى حسب وجهة نظره مع وجود ذلك البعد "اليهودي" ذي الطابع المركزي في الصراع. كذلك فبن لادن يرى أن هناك طرفاً داخلياً في هذا الصراع تجب مواجهته بنفس روح مواجهة العدو المزدوج الخارجي، وهو الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية التي يعتقد أنها بسبب موالاتها لهذا العدو الخارجي فهي قد ارتدت عن الإسلام بما يوجب قتالها معه. وفي النهاية فحسب فهم بن لادن لطبيعة الصراع مع الدولة العبرية واليهود عموماً، فهو صراع حتمي مكتوب على المسلمين منذ الأزل، وهو أيضاً صراع محسومة نتيجته لصالح المسلمين الذين بُشروا بذلك في عديد من النصوص القرآنية والنبوية بالطريقة التي فهمها بها أسامة بن لادن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي