حقوق الإنسان.. التشهير بعقوبة المعلم
العنف المدرسي.. أحد أنواع العنف التي تتفاعل حولها الآراء وتتبادلها بالنقد والتحليل، فبعض الآراء لا تقر حدا بين العقوبة المعتدلة والأخرى العنيفة وترفضها جميعا من حيث المبدأ، أما استخدام العصا فتعتبره جريمة تهدم الجيل والمبادئ والتربية والتعليم، وتتمسك بمتطلبات التربية الحديثة التي لا تتوافق معها أساليب العقاب بكل أنواعه الجسدي والمعنوي مهما كانت درجته، وتؤكد أن نظريات علم النفس والتربية أظهرت الآثار السلبية للضرب ومنها المخاوف والإحساس بالإهانة وعدم الثقة بالنفس ويحفز السلوك العدواني.
بينما يقر أكاديميون مبدأ عقوبة الضرب كأسلوب تربوي بضوابط معينة وبعد استخدام الوسائل التربوية المتاحة، وأن يتم تحت إشراف المدرسة، مع ضرورة التدرج في أسلوب الثواب والعقاب، ومراعاة الفوارق بين الطلاب، فهناك من يستجيبون للتنبيه والإرشاد بالكلمة، وآخرون بحسم الدرجات، حتى الوصول إلى الفئة التي لا يفيد معها إلا الضرب، وهذا أيضا ما يراه معلمون ويؤيدهم في ذلك طلبة، إذ يرون أن للعصا وجهين وجها جميلا ووجها قبيحا، وأن منع الضرب في المدارس أدى إلى استخفاف الطلبة بالمعلمين وتعليماتهم، وتسبب في عدم انضباط الفصل الدراسي أثناء الشرح، إذ قد يصبح المعلم في واد والطلبة في واد آخر، يتبادلون النكات والتعليقات وينشغلون في الحديث فيما بينهم، وبالتالي يصعب على المعلم إيصال ما لديه من معلومات، تكون من نتائجه انخفاض المستوى العلمي للطلبة وحكم غير عادل على قدراته وجهده.
تستمر الآراء في سجالها فتتقارب مرة وتتباعد أخرى إلى أن تخرج برؤية تستنكر العنف وترفضه وتقر الوسائل التي تفرض حسن السلوك وتنمي جودة التحصيل، وتؤكد أهمية الانضباط في التعليم واحترام المعلم والرفق بالطالب، وتذكر بالماضي القريب عندما كان أسلوب التربية موسوما بالصرامة والعنف، إذ يبدأ أن يقدم الأب ابنه إلى المدرسة بقوله "لكم اللحم ولنا العظم" تمشيا مع شعار التربية السائد آنذاك وفق المثل الشعبي القائل "رب ولدك وأحسن أدبه.. ما يموت حتى يفرغ أجله" وكانت الفلكة "الجحيشة" والعصا الطويلة التي تنال آخر طالب في الكتاب أو الفصل الدراسي هي الأدوات المستخدمة، وإلا فضرب الكف على الوجه ومصع الأذن والقبض المدمي وقد مر بذلك الرعيل الأول كافة، وكان منهم كبار المفكرين والأدباء، كما يلخص ذلك من كتبهم وسيرهم الذاتية الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي في ملحق الأربعاء 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005م، ليتساءل في النهاية إذا كانت تلك الأساليب التربوية والتعليمية والبدائية والعقيمة والمتسمة بالقسوة والتخلف لم تحل دون ظهور تلك العبقريات الفذة، فلماذا لم تنجح المدارس والمعاهد والجامعات المفتوحة واللا مفتوحة، وذات التعليم عن بعد أو قرب، وتعدد منابع المعلومات وتدفقها من كل حدب صوب في إنتاج أمثال أولئك الرجال؟
يستخلص من هذه الرؤية أن حالات العنف المدرسي اليوم لا تمثل مشكلة متنامية، بل تعتبر حالات متقطعة متبقية من انسحاب أسلوب التربية في الماضي، إلا أن نسيان ذلك الماضي القريب، والاستدارة بالكامل لتلقف كل تنظير جديد والمناداة بجدوى الأخذ به، دون إعطاء الثقل الكافي لما بين المجتمعات من فوارق تسبب في رؤية الأخطاء بأكبر من حجمها الحقيقي، وشوش المقدرة على التمييز بين إقدام المشاكل وبين إدبارها.
الإفراط في الاستدلال بنتائج الدراسات يشكل جانبا مهما من المشكلة، فالاستنتاجات العلمية ليست دائما صحيحة، كما أن دقتها تختلف باختلاف العوامل المحيطة بها، وقد ترفض أغلب المجتمعات أن تأخذ بالمؤكد منها، كرفضها الأخذ بالاستنساخ وهو نتيجة علمية ثابتة، وعدم قبولها للتنظيرات التي تدعو إلى أهمية إدخال التوعية بالجنس في المناهج المدرسية، وتصرفات أخرى منها بعض السلوكيات في حضرة الوالدين وذلك لعدم تواؤم تلك النتائج والاستنتاجات والتصرفات مع قيم المجتمعات التي رفضتها.
للمعلم في المملكة مكانة متوارثة تجعل منه القدوة، وتعطيه قدرا كبيرا من التقدير والاحترام المطلق دائما، إلى أن كثر الأخذ بالتنظير فبدأت تتغير مفاهيم التربية عند بعض الآباء، فازداد اهتمامهم بصحة أبنائهم البدنية أكثر من اهتمامهم بصحتهم العقلية والفكرية، فتولدت عندهم القناعة بخطأ كل عقوبة تربوية، وتبدلت نظرتهم تجاه هذه القيم، وحفزتهم على المطالبة بمحاسبة المعلم على أخطائه نحو أبنائهم، وتمسكوا بضرورة تطبيق العقوبة الرادعة بحقه، فكثرت الشكاوى ورحل البت في كثير من القضايا إلى التنظيمات واللجان خارج المدرسة، وأصبح صدور قرارات عقوبة المعلمين محل ترقب ومطالبة بنشرها في الصحف.
المقتنعون بهذه الإجراءات يعتبرون أنها معالجة تربوية إيجابية، بينما يرى غيرهم أنها منفذا لتسرب السلبيات إلى العملية التعليمية، فالنيل من معلم واحد والمساس باعتباره ومكانته ستطول آثاره الأغلبية الصالحة من المعلمين، مما سيولد في أذهان النشء مفهوما خاطئا، بأن جميع المعلمين كمن قرؤوا عنهم في الصحف مما يغير من نظرة التقدير إلى معلميهم، ويحفز من اجترائهم عليهم بالقول والفعل.
الانتقال بالقضايا التربوية إلى خارج المدرسة ما لم تكن هناك ضرورة قصوى، قلص دورها التقليدي في معالجة المشاكل، كما تسبب في تراجع دور المديرين في التدخل وإخماد آثارها من الانتشار مستعينين بمن حولهم من مربين أفاضل، أو البعض من أهل التقى والمكانة من أولياء أمور الطلاب في مساندة جهودهم.
المعلم يخطئ.. وقد يكون خطؤه عنيفا أحيانا يصعب التجاوز عنه دون عقوبة، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يصل إلى المطالبة علنا بإنزال العقوبة الصارمة بذلك المعلم، ونشرها باسمه في الصحف حتى تكون كما قيل رادعا يقلل من نسبة ارتفاع العنف، في حين أن هذه الرسالة من الممكن أن تصل إلى جميع المعلمين وهم المستهدفون بها، عن طريق مديري المدارس في اجتماعاتهم بهيئة التدريس، شأنها شأن ما يتم الإبلاغ عنه من قرارات أخرى، أما اللجوء إلى نشر العقوبة في الصحف باسم المعلم، فذلك يوصلها إلى الوسط الطلابي وإلى المجتمع بصورة عامة، وهذا يسبب ضررا أكثر مما يحقق منفعة، إذ إن الرسالة بهدف العبرة ليست موجهة إليهما، مما يحرف الرسالة عن هدفها فتتحول من العبرة إلى التشهير، وتقود إلى فقدان الثقة بالمعلمين، والنيل من كبرياء واعتبار الأغلبية الصالحة منهم، وتزيد من ردود الفعل العنيفة للطلبة ضد معلميهم وتمردهم على توجيهاتهم خاصة في ظل تراجع الأسرة عن دورها في تربية ومتابعة سلوك أبنائها، وفي هذا وذاك أخطاء جسيمة، يلخصها أحدهم بقوله.. لو عاش شوقي ورأى ما نراه لقضى كمدا وحزنا.