هدية لوزير العمل
قرار زيادة مدة عقود التشغيل والصيانة ضمن "مشروع نظام المنافسات والمشتريات الحكومية" يشكل فرصة جيدة لإعادة صياغة أهداف هذه العقود واستثمارها لتوفير آلاف الوظائف للمواطنين.
قبل حوالي عام ونصف كتبت مقالاً في "الاقتصادية" عن العقود التي تبرمها الدولة مع شركات ومؤسسات القطاع الخاص لتشغيل وصيانة مشاريع البنية التحتية والمرافق العامة بتكلفة تقارب 30 مليار ريال سنوياً، وما تحمله هذه العقود من فرص لتوظيف عشرات الألوف من المواطنين. غير أن المراقب لما هو قائم فعلاً على أرض الواقع يجد أن الإفادة من هذه العقود في توفير وظائف للسعوديين ضئيلة بالرغم من الجهود الكبيرة التي تُبذل، والقرارات العديدة التي صدرت على مدى العشرين عاماً الماضية بأن تكون أولوية التوظيف للسعوديين وتحديد نسب إلزامية متدرجة للسعودة وما صاحب ذلك من حوافز وعقوبات مكملة ومساندة.
وتطرقت في المقال المشار إليه إلى العوامل المشتركة التي نكاد نطالعها في كل برنامج ناجح لإحلال السعوديين في وظائف التشغيل المدربة وهي: الاستقرار والأمان الوظيفي، الأجور والرواتب المجزية، ثم التدريب الجيد، إذ إن غياب أي من هذه العوامل يحدث اضطراباً وخلخلة في البرنامج إلى أن ينتهي به الحال تدريجياً إلى مجرد مضيعة للوقت وإهدار للمال وضياع لمستقبل وآمال الكثير من الشباب، فما بالك إن غابت كل هذه العوامل مجتمعة!
لقد اصطدمت برامج السعودة في عقود التشغيل والصيانة بعائق نظامي من صنع أيدينا وهو الفترة المحددة في تعاميم صدرت من الدولة قبل حوالي 20 عاماً وضعت سقفاً لهذه العقود بألا تزيد مدتها على ثلاث سنوات. وهي فترة أثبتت التجربة تلو الأخرى أنها غير كافية لتوفير وظيفة مستقرة للمواطن الذي يتطلع لتنظيم حياته وبناء أسرته، ناهيك عن تأهيل كوادر مدربة تبني سجلها المهني من خلال التدرج في سلم عمل منتج يضيف للاقتصاد الوطني خبرات تراكمية تزداد عاماً بعد آخر.
كما أشرت في ذلك المقال إلى أن السعودة لم تكن الضحية الوحيدة لهذا القيد الذي وُضع على عقود التشغيل والصيانة، بل امتدت آثاره إلى جوهر الهدف الذي من أجله أُبرمت هذه العقود ألا وهو الخدمة ذاتها، حيث تنقضي الشهور الستة الأولى من العقد في عملية استلام وتسليم بين المقاول الخلف والمقاول السلف .. ثم قبل نهاية السنة الثالثة والأخيرة من العقد يُعلن عن طرحه في منافسة .. وهنا تبدأ معنويات العاملين في التدهور لمدة 12 شهراً تقريباً نتيجة للقلق على مستقبلهم الوظيفي، وهذا بالطبع ينعكس سلباً على مستوى الأداء والخدمة. أي أن الدولة تخسر في المتوسط حوالي 30 - 50 في المائة من فترة وقيمة هذه العقود مقابل خدمة متدنية، أو مفقودة. أضف إلى كل ما سبق من الهدر، التلف الذي يصيب منشآت الدولة وتجهيزاتها نتيجة لعمليات الاستلام والتسليم المتواصلة التي تبدو وكأنها لا نهاية لها. ولك أن تُقّدر الخسائر التي تلحق بالاقتصاد الوطني وتأثير ذلك على معدلات نموه.
لذا لم يكن مستغرباً عندما درس مجلس الشورى في السنة الأخيرة من دورته المنصرمة مشروع النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية، أن أفردت لجنة الشؤون المالية حيزاً من جلساتها لتداول ومراجعة الأحكام الواردة في المشروع لتنظيم مدة تنفيذ عقود الخدمات التي لها طابع الاستمرار، إذ إن أوضاع المملكة الاقتصادية والاجتماعية في هذه المرحلة تختلف كلية عما كان سائداً قبل 20 عاماً عندما صدرت تلك التعليمات التي قصرت فترة عقود التشغيل والصيانة بثلاث سنوات فقط، فعلى نقيض الأمس هناك عشرات الألوف من الشباب يبحثون اليوم عن عمل .. كما أن هناك منافسة اقتصادية ستزداد حدتها مع انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية ما يتطلب أن نحسن إدارة مواردنا ورفع مستوى كفاية خدماتنا، وإيجاد كيانات اقتصادية عمادها كوادر وطنية قادرة على التطور والنمو المهني في إطار بيئة عمل مستقرة وآمنة.
كل تلك المبررات دعت لجنة الشؤون المالية إلى رفع توصيتها بالإجماع إلى المجلس بزيادة مدة تنفيذ عقود الخدمات ذات التنفيذ المستمر، كالصيانة والنظافة والتشغيل والإعاشة، إلى خمس سنوات مع جواز زيادة هذه المدة على خمس سنوات للعقود التي تتطلب ذلك بعد موافقة وزارة المالية. وقد أقر مجلس الشورى هذا التعديل وأدرجه ضمن المادة السابعة والعشرين من "مشروع نظام المنافسات والمشتريات الحكومية " الذي صدر من المجلس في السنة الأولى من دورته الرابعة الجارية.
إن زيادة مدة عقود التشغيل والصيانة على النحو الذي أقره مجلس الشورى تعد أحد المعالم الرئيسة في النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية، كما أنها تشكل فرصة جيدة أمام كل من وزارة العمل ووزارة المالية لإعادة صياغة أهداف عقود التشغيل والصيانة التي تبرمها الدولة وترتيبها في إطار يتلافى السلبيات التي أفرزتها هذه العقود في الماضي، واستثمارها ضمن الآليات الأساس في برنامج السعودة لتقديم نموذج للآخرين.