أبو فهد سلـَّمَ الضياءَ.. ورحلْ

انتقل إلى رحمة ربه الشيخ سعد المعجل، وانتقلت معه مرحلة ٌكاملةٌ من تاريخ الأعمال في هذه البلاد. مرحلة لم يكن شاهدا عليها فقط، وإنما كان من صناعها ومن مبتكريها، ومن الذين قادوا محاور تغييرها. مات الرجلُ وتحس فجأة وأنت تنظر للسماء وكأن نجماً هائلاً رحل وترك وراءه ثقباً أسود عميقاً على أن ضوءَ النجمِ يبقى أزليا.
يرحل الشيخُ سعد، أو كما نحب أن ندعوه، وكثير من المحيطين به، بالعم أبو فهد، إلى مآله الخالد نجما في الأعمال كما عاش كل حياته نجما في الأعمال. نخاف مع رحيل النجم الكبير أن يكون قد أخذ معه أجمل عهد أخلاقي عشناه في المنطقة، عهد احترام الكلمة، ووزن المصلحة، وإشاعة التنظيم التعاوني، وتوزيع المنافع بالقسط، والحكم بين أصحاب القضايا بالهيبة والمحبة معا. كان الرجل نظاما كاملا.. ولم يعد في الإمكان أن يكون رجلٌ في الحاضر نظاما كاملا..
رحل الشيخ سعد بكامل حواسه العقلية، ورحل بكامل تهذيبه فهو يذكر تماما كل من يزوره، بل ويتذكر أحداثه معهم، ويحرص على أن يشكر على كل لفتة يراها كريمة في حقه كما كان يفعل. وإنك عندما تعرف العم أبو فهد فلن تستطيع أن تكف عن معرفته، كل لقاء معه هو لمعة تاريخية في ذاكرتك.. وأنا كنت من المحظوظين جدا الذين عملت بقربه، ومازالت اللمعات تبرق في قلبي وفي عقلي وفي كل وجداني.. رحل رجلٌ كتبت عنه إعجابا في حياته، وأكتب الآن عنه وأنا أتألم ليس على فقدان رجل بحجم منطقة كاملة، ولكن أيضا أتألم لهذا المنطقة الكاملة بفقدانه.. نعم، إني أقدّر ما أقول.
ليس هناك رجلٌ من كل من عرفت في رجال الأعمال، أو رجال الفكر، أو رجال الوظائف، من هم في دقة العم أبو فهد وحرصه ونظامه واحترامه لكل دقيقة تمر في شأن من الشؤون. مهما كان الشأنُ عظيما له، أو صغيرا بالقياس له، إلا أنه يلقى ذات الاهتمام الدقيق والمتابعة الحريصة والحفظ في الذاكرة بذات المساحة وبمقدار الزمان. رجلٌ عجيبٌ حقاً.. رجلٌ قلّ أن ترى مثله في حياة واحدة.. نعم أنا أدرك ما أقول.
أقبل على العم أبو فهد لأمرٍ ما، ومعي معه موعدٌ مضروبٌ كلّ مرة، وأجد سكرتيره الطيب يهبّ لي – كما يهبّ لأي أحد- فطريقة العم أبو فهد أن تبدأ طقوسُ استقبالك من عند أول خطوة في مكتب السكرتير، إلى آخر خطوة تطويها خارج مكتب السكرتير.. محفولا كما دخلت. أدخل على أهم رجل في تاريخ أعمال المنطقة، وأجده كله في انتظاري، ولا شيء يشغله غيري، ولا ورقة ولا ملف على الطاولة، ولا شخص آخر في المكتب، ولا هاتف يرن.. وتتعجب وكأن الرجل منقطع عن العالم، والحقيقة أنه من الأفراد الأكثر اتصالا في العالم، ولكن له فلسفة فريدة جدا فهو يؤمن لما يضرب لك موعدا أن الوقت صار لك أنت لا له، وبالتالي بما أن الوقت وقتك فهو لا يجوز أن يربكه بأي مقاطعات مهما كانت، وبهذه الطريقة الحكيمة والمقدرة الفذة يحس الضيفُ أنه في جوٍّ يمكنه أن يقول أي شيء بدون حذر، وبدون ارتباك، والأهم بدون تسرع.. وترى روعة الحكمة والذكاء معا هنا، فإنك أمام العم أبو سعد تعصر كل معلوماتك أمامه وهو يأخذ المعلومات كاملة بدون غبشٍ ولا مواراةٍ ولا اختصار أو قطعِ فيكون قادرا أكثر من غيره في أي اجتماعٍ عملي، يأتي ومعه ذخيرة من المعلومات المرسلة تلقـَاها مِن مَن أجتمع بهم وهم يريدون أن يقولوا كل شيء فيتيح لهم أن يقولوا كل شيء.. لذا يتعجب الناس من جاهزية الشيخ سعد الهائلة وفي كل اجتماع ( وتأكد أنه يعقد ويحضر اجتماعات بمعدلات تفوق ما تتصور) ولا عجب بعد أن عرفتَ أنه فعلا وبجدية ملتزمة يعرف كيف يغرف المعلومات، ويأخذها بتبرعٍ، وطواعيةٍ كاملةٍ من أصحابها.
والعم أبو فهد من أنظر الرجال، وأكثرهم عناية بقشابة مظهره، ولن ترفع عينيك عن وجهه السفير، وبشرته اللبنية الصافية، وبسمته المختفية بحزم وراء تصميم وإرادة من فولاذ.. أما سر هذه البسمة فهو قدرته المتميزة الإنسانية في ولعه أن يفهم كل إنسان يعرفه ويتقرب إليه، وتماما .. يحتضنه. عندما تكون بحضرة العم أبو فهد فهو لن يسألك: "ماذا عندنا اليوم؟" وإنما سيبدأ لك بسيرة شخص تعرفه أنت إما من عائلتك وإما من المحيطين بك، وكأنه يسقيك مصلا يرخي عضلاتك لتهدأ وتشعر أنك بأيد أمينة.. سرٌّ من أسرار النجم الكبير. أظن.. لا يتقنه أحد غيره.
عندما يرحل النجمُ يترك وراءه ثقباً واسعاً عميقاً، ولكن ضياءه يستمر أزليا. ويرحل العم أبو فهد نجما كما عاش، ويترك في القلوب فراغا هائلا، ويرسل لعقولنا وذاكرتنا ضياء معرفيا سيبقى أزمانا.
الرجلُ الذي ساهم في صنع تاريخٍ عمليٍّ كاملٍ، وسلـَّمَهُ لنا.. رحَلْ!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي