الحاجة أم الاختراع

القرن عبارة عن مائة عام، وفي بداية قرن مضى أو أكثر كانت تستحث المشرفات البريطانيات طلبة وطالبات المدارس الداخلية على تناول وجبات الطعام بالتمام والكمال ودون هوادة، وتذكيرهم "بأن ملايين البشر في الهند يموتون جوعا, ومنهكين تعبا بحثا عن الغذاء", ومنذ نصف قرن تغيرت نغمة المشرفات البريطانيات على تدريب الطاقات البشرية في تفعيل قدراتهم وملكاتهم والتزاماتهم, وتوجيههم إلى الاهتمام بالتدريبات العملية والمهارات الإبداعية"، تحسبا من مزاحمة ملايين الهنود القادرين على التفوق عليهم في سوق العمل محليا ودوليا والفوز بفرص العمل بجدارة الفرد بعد تراجع محاباتهم من الإمبريالية البريطانية ".
الهند المصدر لملايين العمالة المزاحمة عالميا وخاصة للولايات المتحدة وأوروبا واليابان, إضافة إلى أعدادهم التي تزيد على مليوني وافد هندي للاقتصاد السعودي في درجات ومراتب مختلفة لوظائف العمل والعمالة. ويزاحم العامل الهندي في اقتصاد بلاده في كثير من نشاطاته العملية والعمالية أعداد كبيرة من المهارات والكفاءات العالمية الوافدة التي أعدتها ثقافاتها وحضارتها المتقدمة في الغرب. لذلك توفر الهند التزاحم في الخبرة والكفاءة والتكلفة المزاحمة لمن رغب في تطوير وتحسين مقدراته وكفاءته في الأعمال التقليدية والحديثة من الإلكترونيات إلى المفاعلات، ومن الزراعة للصناعة ومن الحرف إلى المهارات. نجاح هذا التوجه العلمي والمهني يتقدم ويتطور عن قناعة على الرغم من تطاول العرب بوصفهم "بالهنادوة " وتغنيهم بأنه لو في الرز قوة لكان في الهندي... "ديك الهرجة".
انصهار الخبرات من لقاء الحضارات وتبادل المنافع والمصالح واقتسام المكاسب فوائد عظيمة ويقول مراسل "التايم" الاقتصادية الهندية إصدار 10/1/2006 "ليس من المستغرب تشغيل وتوظيف الشركات الهندية " الإفرنجة " من المديرين والموظفين والعمال "بأعداد كبيرة" وعلى سبيل المثل توظيف شركة إيفاليوسيرفن أكثر من 40 أجنبيا من بين 900, وتعتزم الشركة إضافة 150 موظفا أجنبيا لهذا العام.
سياسة الشركة المعلنة "أن تحقيق التواصل الثقافي والحضاري مهم, وتعزيز القدرات اللغوية المختلفة مهم لنجاح عملنا وتحسين خدماتنا".
الاتجاه المعاكس في تحسين القدرات والكفاءات هو النمط الذي نتبعه والطريق الذي نسلكه متذرعين بخوف" بعبع" القدرات والكفاءات الوافدة .
احتساب تحقيق زيادة في الدخل القومي بمعدلات مضاعفة للمستويات التي تحققها الاقتصاديات المكتملة النماء لدول أوروبا والولايات المتحدة وكندا، فيه ابتعاد عن الأسس والأساليب العلمية الاقتصادية الصحيحة للفوارق بين اقتصاديات الدول عامة, والاقتصاد السعودي خاصة، واختلاف أحوال معيشية ومصادر الدخول, مثل اختلاف الليل والنهار .
المقارنة التي قد تكون أكثر قبولا لمقارنة تحقيق نتائج جهود البيروقراطية الحكومية والحرية الخاصة والأهلية في الدخل القومي لمستوى اقتصاديات الدخول القومية للدول الأخرى المختارة للمقارنة تكون بعد تنزيل (عن طريق الإبعاد) دخول النشاطات غير المقارنة بين الدخل القومي السعودي وخلافها وأبرزها الدخل الذي لا يتحقق لطرفي المعادلة نتيجة تفاعل بين الجهود البشرية والمعطيات السماوية والمهارات والخبرات والاختراعات. رفض هذا الفكر غير مستغرب انتشاره ويمثل حقا مشروعا لمن يملك الترويج له والدفاع عنه.
نصف قرن مضى علينا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وتوافر لنا خلاله تقدم في العلوم والمدارك وتحسن أحوال المعيشة والخدمات الاجتماعية وتوسيع نشاطات الصناعة والزراعة والتعليم والخدمات البيئية والصحية, وأهم من كل هذا أننا غير راضين كثيرا عما نحن فيه وغير قانعين حتى بالزيادة في دخولنا من الأسهم والأراضي والعقارات وغير واعين أننا لسنا مثقلين من النشاطات التي لو أقدمنا عليها لتوافر لنا دخول مضافة في أعمال نقوم بها بخبرات مكتسبة ومهارات متطورة وثقافة عالية بالعمل في الداخل والخارج. الإنسان غاية لا تدرك، وكلما تحسنت أحواله طلب الزيادة دون الاهتمام بواجبات مسؤوليات العمل ويغض النظر عن مزاحمة الآخرين.
التقارب بين التطلعات والركض وراء الرغبات يبتعد مع مرور السنوات خاصة فيما يتعلق بالإنجازات المنتجة للكفاءات المتماثلة لاحتياجات سوق العمل لأن الرؤية لمسيرة الاقتصاد غير متفق عليها، وحقيقة واقع الاقتصاد الوطني مثل السراب الذي يبتعد كلما قربت منه. ويحتاج إلى أن تضخ فيه مزيدا من الأموال التي هي حصيلة فائدتها الآنية تذهب في معظمها للوسطاء والبنوك و"الفزلكات" التي تدور في فلكها, ومستقبلها المستثمر في الأسهم والصحارى والجبال علمه عند الله.
اقتصادنا في غالبه استهلاكي وزيادة أقيامه سوقية ودفترية في أسهم وعقار ودخول ريعية تضخم ثروة، متناقصة أو لا تزيد على أرقام في سجلات ليست مموسكة.
الاقتصاد يحتاج إلى تركيز الاهتمام وإعطاء المواطن المهارة والجدارة عن طريق التدريب المهني عملا وأسلوبا للحياة والمعيشة.
مهم أن يتوازع الإنفاق والاهتمام واحتساب النتائج بين مختلف أنواع التعليم ومستوياته المختلفة للبنين والبنات بما يضمن توفير التعليم المهني وتدريباته المختلفة من المهد إلى اللحد.
تأخير هذا النمط من التفكير والعمل يعطل ويؤخر مسيرة الاقتصاد الوطني للتقدم والانتعاش, ويترك انعكاسات فكرية غير مرغوب فيها لتخلفنا عن الاطلاع على تاريخ شعوب عريقة في تنمية الثقافات وبناء الحضارات، والاهتمام ببناء الفرد من بداية حياته للحرفة والعلم والثقافة المناسبة له، وفي إعدادها تأخذ البلاد احتياجاتها .
طالما أن العلم الحديث يتطلب الابتعاث للغرب وتقدم الولايات المتحدة علميا يعطيها نصيب الأسد من المبتعثين على الرغم من أن دول الغرب بصورة عامة والولايات المتحدة بصورة خاصة تمر بحالات من الهستيريا والحساسية تجاه العرب عامة وكثير من أهلها لا يتأخرون في الإبداع وابتداع الوسائل والسبل في "تعجيز السعوديين" لدرجة الإهمال والمماطلة، وكذلك وضع إشارة على جوازات سفرهم تمثل تلاعبا من مسؤوليهم بين بعضهم بعضا دون إيضاح أو مساءلة أو تصحيح. نحن قابلون ومتحملون المعاناة الكثيرة كجزء من الثمن المدفوع للعلم, والغريب في الأمر ليس في عدم وضع تصور برنامج متكامل لاحتياجات عشر سنوات مقبلة من المؤهلين يتناسب مع المتوافر للمعطيات والاحتياجات، لكن لعدم فتح الفكر والعقل للنقاش في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية بما فيها الحوار الوطني.
ليس المأمول من حركة الغرف التجارية أن تقدم على أي عمل تنموي متكامل للمستقبل الاقتصادي على الرغم من تقدمها الكبير في تشييد مبان فخمة لمقارها وقاعات الاجتماعات، وتتمتع بقدرة فائقة في محاكاة برامج الأحزاب السياسية الخارجية في انتخاباتها، وأخيرا وليس آخرا تغير مسمى مجلسها دون توضيح برنامج التحسين المترتب على تغير الاسم وارتباطه برفعة الاقتصاد، التي تجني منه ملايين الريالات دون مقارنتها بنتائج مفيدة ملموسة.
المهمة ليست صعبة إذا تفاعلت الكفاءات المتوافرة للغرف التجارية ومجالسها للعمل بمساندة أو مشاركة حضارات وتقانة بما نحن عليه وارتبطت بمصادر خبرة نحن في حاجة إليها.
عضوية مجلس الغرف وخبرة أصحاب الأعمال عن طريق الاقتراع والتعيين تجعلهم مطالبين بأن يوفروا لاقتصاد بلادهم نتائج مجهوداتهم مسايرة لمستويات أعمالهم فيما يحتاج إليه الاقتصاد الوطني ويضيفونها دعما للبيروقراطية.
الوعود التي يقدمها المنخرطون في التسابق للفوز بالاقتراع والتعيين تتبخر دوما مع مرور الأيام مما يجعل الأمل في دور حركة الغرف التجارية السعودية من تقدم منظور لرؤية اقتصادية تجمع المتطلبات والاحتياجات في بوتقة تنموية لزيادة في الدخل القومي ضعيف والبحث عن طريق دخول إضافية من واقع حاضر الغرف في أن توفق بين توفير المهارات والقدرات مع الاحتياجات غير وارد.
توفير فرص العمل وتحقيق تخفيض البطالة يتماثل مع جمع "رأسين في الحلال" بجدارة تتمثل في مساندة أصحاب الأعمال مع الجهود الحكومية حتى يتنقل دورها من الإدارة والتوجيه إلى الإشراف والتخطيط.
الحياة الاقتصادية الوطنية لا يمكن أن تكون في منعزل عن العالم الذي في حقيقة الأمر أوسع بكثير من الغرب والذي ثقله مقسم بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة, إضافة إلى تزايد الدور الروسي.
العالم الاقتصادي النامي الصاعد كبير ومهم غير أننا نقلل من أهميته لنا ونتجنب معرفة أساليبهم في معالجة مشاكل تنميتهم التي تتقارب مع مشاكلنا.
أحجام مساحاتهم الجغرافية الكبيرة وتعدادهم المرتفع تجعل أهمهم دولتي الصين والهند واللتين إجمالي سكانهما يمثل ثلث سكان العالم. فائدة كبيرة تعود للبلاد والاقتصاد الوطني من تخصيص الغرف التجارية السعودية ما لا يزيد على مليون أو ثلاثة ملايين ريال لدراسة يقوم بها مؤهلون وطنيون وأجانب لبرامج تنموية لكل من الصين والهند ومقارنتها بأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية من جهة والفرق بين برامج الصين والهند، وتأثيرها في تقدم كل منهم خاصة فيما يتعلق بالبيروقراطية والشفافية والبنوك واهتمامها بالتنمية وتكلفة الأعمال التي تقوم بها والنتائج المحققة والالتزام في الأداء وبناء الرجال والنساء، مجالس الغرف وفروعها العشرون التي هي أكثر استعدادا لتنظيم بعثات تجارية داخلية واستقبال بعثات خارجية من الاهتمام بالتنمية وتفريعاتها من البطالة إلى الإنتاج.
"القلب النابض" لإحداث المعجزة الاقتصادية يحتاج إلى توافر كثير من الإبداع والإخلاص والتفاني لتنظيم العناصر المرتبطة بالقلب، ولتوصيله بمخ الجسم الاقتصادي تحتاج أموره إلى مراجعة وتقييم.
الاقتصاد الذي نعيشه يعطينا رخاء ماليا كبير وعجزا وفقرا لكثيرين, مما يجعل الجسم يبدو وكأنه دون رأس للبعض وعجز وفقر ولا رابط للأطراف عن طريق القلب للمخ القابع داخل الرأس. والله أعلم .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي