بعد "كاترينا" و"ريتا" و"غاز بروم" .. "أمن الطاقة" في مهب الريح
ما "أمن الطاقة"؟ وكيف يتم قياسه؟ متى تعتبر الدولة المستهلكة "آمنة"؟ هل ارتفاع أسعار النفط، مع وفرة الإمدادات، يهدد أمن الطاقة؟ هل هو مفهوم ثابت أم متغير؟ متى يكون الغاز الطبيعي بديلاً للنفط، ومتى يكون النفط بديلاً للغاز للطبيعي؟ حتى الذين اخترعوا مفهوم "أمن الطاقة" لا يستطيعون الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل كاف ودقيق!
الغاز الطبيعي وأمن الطاقة
جاءت مشكلة شركة غاز بروم الروسية مع أوكرانيا لتجبر الدول الأوروبية على إعادة التفكير في مفهوم أمن الطاقة، بعد أن اقتطعت أوكرانيا جزءاً من إمدادات الغاز الطبيعي الروسي المتجه إلى أوروبا تعويضاً عن الإمدادات التي توقفت من روسيا لأوكرانيا. فقد زادت الدول الأوروبية من اعتمادها على الغاز الطبيعي من روسيا بهدف تنويع مصادر الطاقة، وتخفيف الاعتماد على النفط، وتخفيف الاعتماد على الشرق الأوسط، وتخفيف مستويات التلوث، وكلها من مقومات سياسة الطاقة في هذه الدول. الغريب في الأمر أن مقومات هذه السياسة هي نفسها مقومات السياسة الأمريكية، إلا أن الولايات المتحدة حذرت في السنوات الماضية من خطورة اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي. يعود هذا التحذير إلى عوامل عدة أهمها تخوف الولايات المتحدة من امتداد التأثير الروسي في أوروبا بسبب تحكم روسيا في واحد من أهم مصادر الطاقة في أوروبا، وعدم قدرة الولايات المتحدة على التحكم بمصادر الطاقة الأوروبية غير النفطية، وزيادة الاعتماد على مصدر واحد من الطاقة. هذا التناقض يعود بنا إلى الأسئلة التي ذكرت في بداية المقال ويثبت أن مفهوم "أمن الطاقة" غامض لا تعرف مقوماته وحدوده.
نتج عن انخفاض إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا ارتفاع أسعار النفط بشكل ملحوظ، الأمر الذي يؤكد أمراً غفلت عنه سياسات الطاقة الغربية: الغاز بديل ذو حدين، فقد عمدت الدول المستهلكة إلى زيادة الاعتماد على الغاز للتخفيف من اعتمادها على النفط. ومع زيادة الاعتماد على الغاز ونقص إمداداته ارتفعت أسعاره، الأمر الذي دعم أسعار النفط من جهة، وجعل شركات الكهرباء والمصانع تفضل النفط على الغاز. لقد كان الغاز بديلاً للنفط، ولكن الفترة الحالية ستشهد العكس: سيصبح النفط بديلاً للغاز، وهذا يتعارض مع كل سياسات الطاقة التي تبنتها الدول المستهلكة.
الخيارات المتاحة لنقل النفط أكثر بكثير من تلك المتاحة لنقل الغاز الطبيعي، فإذا توقف ضخ الغاز في الأنابيب لأسباب اقتصادية أو سياسية أو طبيعية فإنه لا يمكن نقل هذا الغاز على الإطلاق، الأمر الذي يؤكد أيضاً ضبابية مفهوم أمن الطاقة. طبعاً قد يقول البعض إنه يمكن نقله بعد تحويله إلى غاز مسال، لكن هذه الطريقة تحتاج إلى استثمارات بمليارات الدولارات وفترة طويلة من الزمن.
نفط خليج المكسيك وأمن الطاقة
بغض النظر عن ماهية إجابات الأسئلة في بداية المقال فإن تشجيع شركات النفط العالمية على التنقيب عن النفط في خليج المكسيك بهدف تنمية مصادر نفطية داخلية في الولايات المتحدة وتخفيف الاعتماد على النفط المستورد من الشرق الأوسط لم يؤت ثماره بالشكل المتوقع بسبب الأعاصير، بل نتج عن ذلك نقص الإمدادات وارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل كان سيتم تطوير حقول النفط في خليج المكسيك لولا تدخل الحكومة الأمريكية والحوافز التي قدمتها لهذه الشركات؟ لو افترضنا أن هناك سوقا عالمية حرة للنفط لا يسيطر عليها أحد، هل كان سيتم تطوير خليج المكسيك؟ إذا كان هناك سوق عالمية حرة، هل سيتم تطوير الحقول المنخفضة التكاليف أولاً أم الحقول المرتفعة التكاليف؟
تكاليف إنتاج النفط في خليج المكسيك هي الأعلى في العالم، وبسبب التشجيع الحكومي ارتفع إنتاج خليج المكسيك إلى ربع الإنتاج الأمريكي من النفط. مسوغات هذه الاستثمارات بسيطة جداً: لا يمكن للولايات المتحدة الاعتماد على النفط القادم من الشرق الأوسط لأنه "مصدر غير آمن" بسبب القلاقل السياسية في المنطقة التي غالباً ما تؤدي إلى انقطاع الإمدادات وارتفاع الأسعار. هذا المفهوم تغير كثيراً بعد إعصاري كاترينا وريتا اللذين نتج عنهما انخفاض كبير في إنتاج النفط الأمريكي. فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة للتعاون مع العديد من البلدان المنتجة والمستهلكة، كما اضطرت للتعاون مع وكالة الطاقة الدولية، ولأول مرة من ثلاثة عقود.
السؤال الآن، أيهما أكثر عرضة للتوقف النفط الخليجي أم النفط من خليج المكسيك؟ تشير توقعات علماء الطقس إلى أن الأعاصير العنيفة في خليج المكسيك تأتي في دورات مدتها 20 سنة. وقد بدأت الدورة الحالية منذ خمس سنوات، الأمر الذي يعني أن هناك 15 سنة على الأقل من مواسم الأعاصير العنيفة. في ظل الدمار الذي حققته كل من "كاترينا" و"ريتا"، وفي ظل المعلومات التي تفيد بأن هذه الأعاصير ستستمر لمدة 15 عاماً، ما هي الحوافز التي ستجعل شركات النفط تستثمر المزيد في المنطقة؟ وما هي الحوافز التي ستجعلها تقوم بإصلاح ما تم تدميره؟ لهذه الأسباب يتوقع ألا يعود إنتاج خليج المسكيك إلى ما كان عليه قبل الأعاصير، كما يتوقع أن توقف بعض الشركات مشاريعها التوسعية في المنطقة حتى عام 2020. لهذا السبب سيزيد اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط بشكل عام والنفط الخليجي بشكل خاص، الأمر الذي يناقض مفهوم أمن الطاقة الذي كان سائداً خلال العقود الثلاثة الماضية.
الخلاصة
أثبتت الشهور الأخيرة أن أمن إمدادات الطاقة لم يعد مرتبطاً بدول "أوبك" فقط، بل يتعداها إلى دول أخرى، كما يتعدى النفط على المصادر البديلة مثل الغاز الطبيعي. كما أثبتت أن أسواق مصادر الطاقة ترتبط ببعضها ارتباطاً كبيراً لدرجة أن انخفاض إمدادات مصدر ما ترفع أسعار بقية المصادر. وأثبتت أن أسواق الطاقة عالمية بطبعها لدرجة أن قصر مفهوم أمن الطاقة على الاعتماد على مصادر الطاقة الأجنبية لن يغير من الأمر شيئاً. فإذا فرضنا أن دولة مثل اليابان تستورد كل النفط الذي تستهلكه، فإن سعر النفط في اليابان سيكون نفس السعر في الولايات المتحدة التي تستورد نحو نصف إمداداتها، والسعر نفسه في الدول المصدرة للنفط.
لقد كان النفط هو زعيم مصادر الطاقة في الماضي، ومازال، وسيظل كذلك. وبما أن الأحداث الأخيرة في كل من خليج المكسيك وروسيا ستغير مفهوم أمن الطاقة في هذه الدول، فإن التغير قد يأخذ شكلين متطرفين: التركيز على دول الخليج كمصدر أساس للطاقة خلال العقود المقبلة وجعل نفط هذه المناطق جزءاً لا يتجزأ من أمن الطاقة في هذه الدول، أو تنمية مصادر بديلة للنفط مهما كان الثمن. لكن الواقع قد يفرض مزيجاً منهما بحيث يتم زيادة الاعتماد على النفط الخليجي على المدى القصير، في الوقت الذي ستطور فيه هذه الدول مصادر بديلة للطاقة على المدى الطويل. وسيفرض الواقع نوعاً جديداً من التعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة، لكن الواقع سيفرض أيضاً خلافات كثيرة نتيجة ترسبات تاريخية عديدة.