الدور الاجتماعي للشركات بين المؤيدين والمعارضين
إن التطور التكنولوجي والعلمي الهائل الذي تشهده بيئة الأعمال اليوم وانتقال المجتمعات إلى مرحلة تاريخية جديدة في ظل ما يسمى بـ "اقتصاد المعرفة" أو"الاقتصاد الرقمي" يشير بوضوح إلى الدور المهم الذي تلعبه الأعمال في حياة الدول على مختلف المستويات وصارت الشركات الكبرى تتبارى بمخترعاتها واكتشافاتها سلعا كانت أو خدمات, وزاد تأثير هذه المنظمات في قرارات حكومات الدول التي تنتمي إليها بل امتد هذا الأثر إلى دول أخرى بفعل الاستثمار الخارجي لهذه الشركات. إن هذا الأمر يوضح مدى الحاجة إلى أن تكون قرارات هذه الشركات مؤطرة بإطار أخلاقي يحد من الآثار السلبية التي تؤثر في حياة المجتمع الذي تعمل فيه هذه الشركات. وقد زاد تطلع المجتمع إلى مساهمة هذه الشركات في زيادة رفاهيته والقيام بأنشطة اجتماعية كثيرة يمكن أن تسهم في تطوره وازدهاره. فهناك شرائح اجتماعية كثيرة في المجتمع تعتبر من أصحاب المصالح أو المستفيدين من وجود شركات الأعمال، فالمالكون هم أول المستفيدين ولا تقتصر فائدتهم على الربح وتعظيم قيمة الشركة وسعر سهمها في السوق بل يتطلعون إلى سمعة طيبة لشركتهم والتزام أخلاقي من جانب العاملين بعدم إثارة أي شبهة أو خدش لسمعة الشركة وشهرتها. وكذا الأمر مع العاملين فهم يتوقعون قيام الشركة بتحسين لأوضاعهم وأن تتوافر لهم ولعوائلهم ظروف جيدة وأن تحل جزءا من مشاكلهم سواء ما تعلق منها بالسكن أو الصحة أو التعليم. كذلك الحكومة فإنها تأمل تسديدا كاملا للالتزامات الضريبية وتطبيقا لمبدأ تكافؤ الفرص ومساعدة في حل المشاكل المستعصية كالبطالة والفقر وغيرها.
لقد أدى الاتجاه الواسع نحو التخصيص إلى تخلي الحكومات عن الكثير من أدوارها التقليدية الاجتماعية والتزاماتها تجاه مواطنيها مما يتطلب وجود جهة أخرى تساعد في تأمين هذه الالتزامات وبالطبع فإن هذه الأعباء ستلقى على عاتق منظمات الأعمال وأصحاب رأس المال وهي الجهات التي ستحل محل الحكومة في إدارة الشركات أو المؤسسات التي تم تخصيصها. لم تكن الدعوة إلى تبني المسؤولية الاجتماعية من قبل منظمات الأعمال جديدة بل تمتد إلى فترة طويلة ولكنها ازدادت وضوحا في ستينيات القرن الماضي واستمرت بالتنامي إلى أن بلغ الأمر بها أن تدخل كمادة دراسية في الجامعات والمعاهد في مختلف بلاد العالم وعادة ما تقرن بموضوع آخر مهم هو أخلاقيات الأعمال Business Ethics. ونجد اليوم مناهج الدراسة الخاصة بكليات التجارة وإدارة الأعمال والعلوم المقاربة الأخرى وقد اشتملت على مادة بعنوان "المسؤولية الاجتماعية وأخلاقيات الأعمال" أو "الأعمال والمجتمع"، وهذا الأمر لا يخص الدول المتقدمة بل تعداه إلى الدول النامية وخصوصا تلك التي ازدهرت فيها الأعمال والشركات الخاصة والبنوك التجارية.
إن الدور الاجتماعي لمنظمات الأعمال وأصحاب رأس المال ومراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية من قبل متخذي القرار هو مطلب مهم في عالم الأعمال اليوم تسنده الحكومات بوسائل متعددة منها الإعفاءات الضريبية للكثير من المساهمات الاجتماعية أو التشجيع عليها بوسائل مختلفة. ولكن هل إن الجميع متفقون على أن تتبنى جميع منظمات الأعمال مسؤولية اجتماعية معينة؟ بالطبع لا، فهناك من يعارض هذا التوجه ويعتبره تجاوزا على الدور الاقتصادي البحت الذي يجب أن تؤديه منظمات الأعمال بإتقان، فالمسؤولية الوحيدة لهذه المنظمات هي تحقيق الأرباح والنمو والتوسع وكان على رأس الباحثين والمفكرين الداعين لهذا الرأي المفكر الاقتصادي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل "ميلتون فريدمان" Milton Friedman . فقد رأى هذا المفكر أن منظمات الأعمال يجب أن تحقق أرباحا وتتوسع في خلق فرص عمل من خلال زيادة حجمها وفتح فروع جديدة لها. ولم تكن هذه الحجة الوحيدة بل عزز أنصار هذا التوجه موقفهم قائلين إن المنظمات ستدعم الحكومة بشكل أفضل عندما تحقق أرباحا كبيرة وتسدد نتيجة لذلك ضرائب أكثر وهذا سينعكس بشكل مشاريع حكومية أكثر تسهم في رفع مستوى المعيشة وزيادة رفاهية المجتمع. كذلك هناك هاجس ذوبان الأهداف الاقتصادية واضمحلالها لو أن منظمات الأعمال ركزت على الأنشطة الاجتماعية أي أن الصرف على الأنشطة الاجتماعية سيؤدي إلى الضعف الاقتصادي لمنظمات الأعمال وبمرور الزمن ستزداد مطالبة المجتمع بأن تتبنى الشركات مزيدا من الأدوار الاجتماعية وسيؤثر ذلك سلبيا على الإنتاجية العالية والاستثمار في البحث والتطوير. إضافة لما تقدم فإن المعارضين يبرزون عاملا مهما آخر لضرورة التركيز على الجانب الاقتصادي وهو عدم تزويد الشركات بسلطة إضافية خصوصا الكبيرة منها والتي تتمتع الآن بسلطات قد تفوق أحيانا ما لدى الحكومة من سلطات فشركات مثل "جنرال موتورز" و"مايكروسوفت" و"ميرسك لاين" لها نفوذ قوي وكبير وليس من الصواب إعطاؤها سلطات إضافية حيث إن الإنفاق الاجتماعي سيخلق لها نفوذا إضافيا من نوع آخر. وأخيرا يتقدم المعترضون بحجة أخرى يرون أنها مهمة في دعم وجهة نظرهم وهي صعوبة المساءلة القانونية والمحاسبة عن الأنشطة الاجتماعية حيث هناك معضلة حقيقية بسبب عدم وجود معايير مطورة لقياس الأداء الاجتماعي ولا ننسى هنا الإشارة إلى أن الشركات قد تقدم كشوفات للحكومة حول أنشطتها الاجتماعية التي قد تكون مضخمة بشكل كبير يهدف الحصول على إعفاءات ضريبية وهذا يؤدي إلى حرمان خزينة الدولة من أموال كان بالإمكان توجيهها لمشاريع تسهم في تحسين مستوى رفاهية المواطنين. إن هذه الحجج تقابلها حجج أخرى ربما تكون أقوى من وجهة نظر المؤيدين لأن تتبنى شركات الأعمال مسؤولية اجتماعية وأن تصرف جزءا من أرباحها على الأنشطة الاجتماعية بأشكالها المختلفة، فهم يرون أن الالتزامات الأخلاقية تملي على الشركات أن يكون لها دور اجتماعي بحيث يكون هذا متوازنا مع النقد الموجه للشركات بأنها تكدس الأرباح وتتوسع في الاستثمار دون أي شعور بحاجة المجتمع إلى كثير من الخدمات والمشاريع بل وتتجاهل الكثير من المتطلبات الأساسية للعاملين فيها. كذلك فإن الأرباح على المدى البعيد سوف تكون أكبر بكثير عندما يشعر المجتمع بأن الشركة ملتزمة تجاهه وإنها تسهم في الارتقاء به وبرفاهيته. ولعل الحجة الأكثر أهمية هي أن الحكومات ستقلل من تدخلها في شؤون الشركات عن طريق سن القوانين والتشريعات، فكلما كانت المساهمة الاجتماعية للشركة أكبر كلما انخفض عدد القوانين والتشريعات التي تلزمها بالصرف على أنشطة اجتماعية تساعد الحكومة في إدارة شؤون البلاد. كذلك ستكون هناك موازنة بين النفوذ الاقتصادي الذي تتمتع به الشركة والذي يؤثر غالبا في حياة الناس وبين مسؤوليتها الاجتماعية فضلا عن أن الصرف على حل مشاكل المجتمع يعتبر تدبيرا وقائيا لتجنب هذه المشاكل التي ستحدث عاجلا أم آجلا في صورة أحداث شغب أو تمرد شبابي أو تفشي أعمال لا أخلاقية مرفوضة تتسبب في ضياع عدد كبير من الشباب و خلق توتر غير مرغوب في المجتمع.
إن ما تقدم أعلاه من استعراض لآراء المؤيدين والمعارضين لتبني شركات الأعمال مسؤوليات اجتماعية يتعلق بالمبادرات الاجتماعية الطوعية التي تقوم بها الشركات من تلقاء نفسها ولكن عندما تفرض الحكومات بقوانين وتشريعات بعض الممارسات التي يجب أن تنفذها الشركات مثل أن تكون هناك نسبة مئوية من الوظائف في الشركة مخصصة للمعوقين فإنها حينذاك تكون قانونا ملزما ولا تسمى مسؤولية اجتماعية.
خلاصة القول إن التطور الحاصل في ميدان الأعمال اليوم وتعقد دور الدولة يفرض على منظمات الأعمال أدوارا جديدة منها الدور الاجتماعي الذي تسهم من خلاله في حل الكثير من المشاكل التي تساعد في دعم استقرار المجتمعات ولا بد من الإشارة إلى أنه قد تطورت حقول معرفية مرتبطة بهذا الموضوع مثل محاسبة المسؤولية الاجتماعية التي ستخفف من حدة النقد المتعلق بعدم وجود معايير دقيقة لقياس الأداء الاجتماعي. إن على جميع الشركات أن تبدأ برنامجا ولو بسيطا للمسؤولية الاجتماعية يشتمل على أنشطة بسيطة أولا و لكن المهم أن يستمر ويتطور عبر الزمن ويحصل هذا في ظل دعم الإدارة العليا. إن المردود المستقبلي سيكون كبيرا وإن اقتضى الأمر التضحية بجزء من الأرباح على المدى القصير.