استراتيجية التوظيف السعودية .. تبحث عن مشروعية (1- 2)

إن مصطلح "السعودة" الذي أطلقه الاقتصاديون، يعبر عن اهتمام الدولة بتوظيف وتوطين المواطنين السعوديين وإحلالهم مكان العمالة الوافدة في القطاعين العام والخاص، إلا أن سياسة تطبيقه من قبل الحكومة ومن قبل القطاع الخاص، أخلت بالفوائد المرجوة منه لأسباب عدة.

"استراتيجية التوظيف"، هي العنوان البارز والساخن في أحداث الساحة الاقتصادية منذ فترة ليست بالقصيرة، وكانت عنوان لقاء استضافته غرفة تجارة وصناعة جدة مطلع الأسبوع في حضور وكيل وزارة العمل والعمال للتخطيط والتطوير الدكتور عبد الواحد الحميد، لتقديمه إلى الغرف التجارية السعودية والقطاع الخاص تمهيداً لرفعه إلى وزير العمل والعمال لاعتماده!
وبحسب العرض الذي قدمه الدكتور إحسان بوحليقة الاختصاصي في تحليل المعلومات، ينقسم المشروع إلى ثلاث مراحل مدتها 25 عاماً، الأولى تستهدف خفض نسبة البطالة خلال عامين، والثانية تستهدف القضاء على البطالة إلى النسب المتعارف عليها عالمياً خلال ثلاثة أعوام، وأخيراً استراتيجية عامة وهي تواكب القطاع الخاص مع وزارات العمل، والتربية والتعليم، والتعليم العالي، وهيئات التدريب المختلفة من المؤسسة العامة للتدريب المهني وصندوق التنمية البشرية، لنصبح حلقة واحدة لجعل المواطن السعودي قيمة مضافة في سوق العمل.
جميل ورائع، حيث يمكن القول إن الاستراتيجية كانت واضحة المعالم، وهي تتسق تماماً مع جهد دولة وحكومة بأكملها، لكن عدداً من الأسئلة بقيت مفتوحة دون إجابة في مقدمتها جدية التطبيق؟ والجهة المسؤولة عن المشروع؟ فالاستراتيجية تتناول أدواراً مختلفة لوزارات التربية والتعليم والتعليم العالي ومراكز التدريب والتعاون مع الجمعيات الخيرية، أي أن المشروع أشبة ما يكون بمشروع وطني شامل يتعامل مع عدد من الوزارات المختلفة.
ونقف أمام سؤال مهم جداً ؟ هل هذه الاستراتيجية تخص "دولة" أم "وزارة"؟ فالفرق واضح وكبير جداً، فإن كانت استراتيجية وزارة سيقرها وزير العمل والعمال أخيراً، لذلك فهي ستتحرك في نطاق ضيق ومعرضة للاصطدام في أي وقت وربما إلى حد "التطرف"، على خلفية أنها لا تملك إمكانية النفاذ والتطبيق إلا بدعم "الدولة"، والدولة المقصود بها هنا.. مشاركة الجميع فيها بتوجيه من سلطة عليا.
ولا جدال أن دخول المجلس الاقتصادي الأعلى في هذا الجانب سيحقق ذلك بشكل كبير جداً، فهو يعني مثلاً إدخال وزارة المالية والوزارات الأخرى فيه ليصبح في نطاق الشمولية، فالمشروع كما شاهده الحاضرون في "بيت التجارة"، يحتاج إلى دعم مالي في حدود 700 مليار ريال على الأقل خلال فترة تطبيق الاستراتيجية وهي 25 عاما وهذا المهم!
وبعودة مرة أخرى إلى الاجتماع، فالجزء الثاني منه تم تخصيصه لمداخلات ونقاش من رجال الأعمال، وكان المهندس حسين أبو داود نائب رئيس مركز الصادرات السعودية هو أول من طرح رؤيته العملية والشخصية في الاستراتيجية، مستنداً إلى تجربة عملية وشخصية، فأبو داود أحد أبرز رجال الأعمال السعوديين الذين قدموا أطروحات مهمة في سوق العمل، وكان أول من نادى بإنشاء صندوق الموارد البشرية.
أبو داود وبدبلوماسيته وشفافيته المعروفة، أكد أن مشروع الاستراتيجية عظيم جداً، ولكن إمكانات تطبيقه محدودة، إذا لم تعتمد له ميزانية خاصة تدعمه وتقف وراءه، فالاستثمار في الأجيال أهم من الاستثمار في أي من القطاعات الأخرى.
وأوضح أبو داود أن هذا المشروع الطموح يحتاج إلى نحو 70 مليار ريال على الأقل في الخمس سنوات من المرحلة الأولى لنجاحه، ثم تطرق المهندس جميل الفارسي إلى عوامل أخرى غير التمويل المالي لإنجاح التجربة، والمتمثلة في اقتناع باقي الوزارات الحكومية المعنية والقطاع الخاص به، حتي لا نرى قرارات تخرج عن إطارها، مستشهداً بتجربة سعودة وظائف قطاع الذهب والمجوهرات التي أدت إلى نتائج سلبية على ذلك القطاع، كما أضاف المحاسب القانوني أسامة ألخريجي أهمية استقطاب العمالة الوافدة ذات التقنية العالية ووضعها من ضمن الاستراتيجية لأهمية وجودهم حيث دول متقدمة جدا مثل كندا لديها أكثر من 20 برنامجاً لاستقطاب الكوادر.
وكان زياد البسام أكثر واقعية من الجميع، حينما طالب قبل أي شيء بالاستماع إلى شركات القطاع الخاص ومشكلاتها وهمومها في التوظيف في المرحلة القصيرة والمتوسطة، حتى يكتمل البرنامج بطريقة بقوة "التراضي" وليس بـ "القوة الجبرية"! ولسوء حظي لم أستطع التعليق وإبداء وجهة النظر لضيق الوقت، ما دعاني إلى طرح القضية في ساحة النقاش العلنية، فنحن أمام قضية وطنية وليست مسألة مشكلة اقتصادية طارئة!
في البداية أتفق تماماً مع أطروحات زملائي رجال الأعمال وفي مقدمهم أبو داود والفارسي والبسام والخريجي فيما يخص الجزء الأول والثاني من الاستراتيجية، وما بدا واضحاً أن الاستراتيجية المقترحة في مرحلتيها الأولى والثانية تخص وزارة العمل والعمال فقط، وإذا تمت الموافقة عليها فإن الوزارة أنهت دورها المطلوب، وهو تخفيض نسب البطالة في المرحلة الأولى، والقضاء عليها في المرحلة الثانية خلال خمس سنوات، وعلى القطاع الخاص الانتظار لقطف ثمار المشروع في الـ 20 عاماً الأخرى، التي تلي السنوات الخمس الأولى.
ولمزيد من التوضيح، فإن وزارة العمل في مشروع الاستراتيجية ستنهي مسؤوليتها الملقاة على عاتقها خلال خمسة أعوام فقط، وهو إنجاز سيجد "تصفيقاً" و"تهليلاً" إذا ما سارت الخطط دون أي مفاجآت!
بيد أننا سنعود مرة أخرى إلى نقطة الصفر، فالاستراتيجية لم تصل إلى عمق المشكلة، فهي لم تشرك القطاع العام، ويعود السؤال الأزلي على من تقع مسؤولية الأجيال القادمة؟ هل هي مسؤولية مشتركة أم هناك توجهاً آخر غير معلن؟
إنني وباسم كل شباب هذا الوطن، أطالب بوضع ملف مشروع الاستراتيجية على طاولة المجلس الاقتصادي الأعلى، لتحصل على "الشرعية"، التي يمكن بها مشاركة جميع الوزارات والهيئات المعنية بالجيل السعودي القادم.
لقد ثبت بشكل جازم، أن مصطلح "السعودة" الذي أطلقه الاقتصاديون، يعبر عن اهتمام الدولة بتوظيف وتوطين المواطنين السعوديين وإحلالهم مكان العمالة الوافدة في القطاعين العام والخاص، إلا أن سياسة تطبيقه من قبل الحكومة ومن قبل القطاع الخاص، أخلت بالفوائد المرجوة منه لأسباب عدة في مقدمها: أن سياسات "السعودة" ركزت دوماً على تحقيق الكم فقط، ولم تركز على تحقيق النوعية أو الكفاءة المطلوبة من العاملين السعوديين لتغطية احتياجات السوق.
وحتى لا أجد نفسي وآخرين معي أيضاً ضمن فئة "التيار المضاد" نحو تلك السياسات التي وجدت نفسها وحيدة وتلقت ردود فعل "عنيفة"، فإن تفنيد ومناقشة كل السياسات السابقة يؤكد ما ذهبت إليه في وجود أخطاء تحولت لاحقاً إلى مشكلات وأخيراً إلى "كارثة".
وتتمثل تجربة "سياسات" رفع العاملين السعوديين في القطاع الخاص في "عصا النسبة"، بدءاً من 5 في المائة من إجمالي عدد موظفي الشركات الخاصة، وفي سنوات لاحقة إلى 10 في المائة، ثم بعد ذلك إلى 20 في المائة إلى أن وصلت إلى 75 في المائة!
إن القطاع الخاص ورجال الأعمال لا يرغبون بأي حال من الأحوال أن ينصبوا "مشنقة" لكل المسؤولين عن سياسة "النسب"، فما حدث أن تلك السياسة "الجبرية"، أهملت بشكل واضح أو لنقل أسقطت من حساباتها متطلبات واحتياجات القطاع الخاص من العمالة السعودية المدربة وذات الكفاءة التقنية العالية لتشغيل الشركات والمصانع والمستشفيات وغيرها.
إن المرحلة المقبلة، تستدعي منا الوقوف بصراحة أكثر مع أنفسنا، والاقتناع بأن مفهوم "السعودة"، أصبح لا يناسب الفترة الحالية وتحديات المستقبل باتت أكثر تعقيداً، إذ أصبحا أكثر حاجة من ذي قبل إلى تطبيق مفهوم تأهيل الكوادر الوطنية، فـ "السعودة" تعثرت ثم فشلت في تلبية متطلبات واحتياجات سوق العمل السعودية، فالعديد من رجال الأعمال السعوديين لا بد أنهم لاحظوا بأن هناك أموراً مهمة ينبغي تداركها وعلاجها قدر المستطاع وبهمة عالية، أولها موضوع التأهيل الحقيقي الكفء للكوادر الوطنية الذي يوفر فرصاً حقيقية للراغبين في العمل لدى القطاع الخاص وهذا للأسف غير موجود بالشكل الذي نؤمله كماً وكيفاً.. وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي