القران المقدس .. حمّام نفسي لذات معولمة (2 من 2)
لا يبدو أن طيف الحلاج كانت معنية بحرارة السرد، أو إنتاج نص إمتاعي يقوم على تأجيل الحقيقة الجمالية وتسويفها، بقدر ما أرادت التأكيد على الحضور الطاغي للذات العارفة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع منسوب الفكرة في الرواية حتى صارت خطاباً مهمته التدليل، ونتيجة لذلك السجال المسقط بكثافة في أنساقها أصيب السرد بالارتباك، حيث التبس بوصف براني يؤطر الشخصيات، ولكنه لا يهتم ببواطنها، حيث أعارت الساردة لكل شخصية مكبر صوت لينازل به بقية الشخصيات، أو هكذا كانت تنوب عن الذوات النسوية في التخاطب.
تتوضح تلك الروح الاستحواذية، عندما حاولت أسطرة بعض الطقوس والنماذج الاجتماعية من خلال المعلومة وليس عبر شفافية سردية، حيث بالغت في الاتكاء على النزعة الإخبارية الشارحة التي تم بموجبها رسم معالم "الملاية معصومة" بتأكيد قدرتها المتمادية على إدارة الجموع من النساء والرجال أحيانا، داخل وخارج المحافل الدينية والاجتماعية ( الحسينيات ) كأنها "سمير أميس" ملكة بابل، فهي أرملة لثلاثة رجال، ولديها قدرة فائقة للتأثير في الآخرين حين تقرأ "التحميدة" وهي قصيدة من 50 بيتاً، أو في احتكام النساء إليها حتى في أمورهن العاطفية والمعاشية، فيما يبدو اقترابا نقدياً من مكمن توجيهي يقع عليه عبء البرمجة الضالة للفرد والجماعات، وتخليق الضحايا اللاواعية.
ذلك ما تقاربه طيف الحلاج من خلال رواية تقع أحداثها في مجتمع ذي خصوصية ثقافية واجتماعية (شيعي) حيث تحاول أن تكشف بناه البطركية وتحولاته أمام المتغيرات من خلال موت ليلى الإكلينيكي، التي لا تكف عن قراءة تفاصيل زنزانتها البيضاء فيما تأخذها عشتار إلى الوراء لتتأمل المضخات الروحية والمادية المسؤولة عن تشكيلها، حيث "الحسينية" التي تتصدى لكل الأدوار الاجتماعية والتربوية، بما هي دعامة من الدعامات المركزية لميكروفيزيائية السلطة، وبما فيها من ارتكاسات ماضوية وتصفيحات واستيهامات، كما تديرها "الملاية معصومة" بكل سطوتها الروحية المسؤولة فيما يعرف في القاموس النفسي بالضحية المنتجة عبر ضحية، وكذلك "بدرية" المعوقة التي يتناوبها كل من يعبر من الرجال، وأيضا المومس "رباب" التي تحتضنها مفاعيل السيطرة في الحارة وتنبذها في آن، حيث تحاول عشتار إقناع ليلى بأن ما تفعله ليس عهرا حقيقيا، فالعهر هو ما يمارسه الذكور في العالم، وهكذا تستعرض السلالة الأنثوية التي تتعايش معها ليلى وتحاول أن توجد لها تفسيرا مقنعا يتناسب مع هشاشتها أو هامشيتها المفروضة بسلطوية الذكور. ولأن الرواية منذورة سلفا لمحاكمة النظام الأبوي والانتصار للمرأة، يتموضع الرجل دائما في خانة الاتهام ويكون هدفا نموذجيا لهجائية الدعاوى الحقوقية النسوية، فهو كائن مجوف، مهووس بالجنس، كما ينبئ عن ذلك قاموس الساردة المؤسس على لغة حوارية سافرة، مليء بالعبارات الجنسية الفاضحة، حيث المغالاة في التصوير الجنسي للمرأة باعتبارها كائنا جنسيا، أو هكذا تستحضر أدبيا داخل النص، دون إبراز مقنع للخفي أو الظاهر من جاذبية الأنوثة إلا بالتلميح الخاطف، فالجسد لا ينطبع برهافة على اللغة والنص، حتى عامل النظافة أراد اغتصاب ليلى وهي في حالة غيبوبة، ووالدها أبو أنور تزوج اللوليتا "أنيسة" التي تصغره بعقود لإشباع نهمه الجنسي، وكتعويض عن مركبات نقصه النفسية، وأم الشيخ الفقيرة الدميمة، تناوبها طابور من الرجال في زواجات مؤقتة (متعة) أبطالها الشيوخ والملالي، ففي هذه المضائق النفسية والاجتماعية والعاطفية تمت موضعة المرأة كما أرادت الساردة، فهي مسيّجة بطوق ذكوري قاهر تتواطأ عليه قوى روحية ومادية وسياسية وثقافية وتاريخية.
إذاً، هي محاولة لتقديم وثيقة حقوقية عن واقع المرأة وعلاقتها بمؤسسات البرمجة الاجتماعية، التي انتهت بها إلى هذا الوضع المأساوي كما تمثل في غيبوبة ليلى المبدّبرة روائيا لمحاكمة الموروث التاريخي والذهنية التي أعطبت المرأة. ويتأكد هذا المنحى من خلال محاولتها تأوين تلك الذات المقهورة في المعالم الطبوغرافية للمكان المرسومة بنبرة احتجاجية، أي في التلميح إلى مظاهر الفقر والبؤس في "الواحة" التي تم الانتقال منها إلى "الساحل" لتستكمل مفاعيل السيطرة التقاط النماذج البائسة وتحويلها إلى جهد تعبوي، يتم بموجبه تصعيد الوهم التاريخي، حيث تؤكد ليلى سطوته بأسى صريح "نحن البشر نميل إلى التعليب ونفضل أن نصب في قوالب جاهزة كي ترتاح أذهاننا".
هكذا تتوغل بانفعالية الداعية الحقوقية في صميم ذهنية مجتمع خائب يعيش رجاله شروخا نفسية عميقة لمجرد أن يرزقوا ببنات دون الذكور، وتتحسر على رجال اقتيدوا إلى السجون بسبب أحلامهم أو معتقداتهم السياسية، ونتيجة تعلقهم الرومانسي بالتيارات القومية وأيدلوجيا اليسار، وقد باتوا نتيجة التغيرات الدراماتيكية قبالة بنية اجتماعية قاهرة، أو ارتدادة تاريخية، تضطرهم للانكفاء أو الاستسلام للموجة المحدّثة من الأوهام، كما تعبر عن ذلك التحول بمآل بنت خالتها سلمى مثلا، الفتاة الرومانسية التي تخضع لعملية غسيل فكري وشعوري فتستبدل صورة مطربها المفضل عبد الحليم بصورة رمز ديني موشاة بعبارات وأذكار استيهامية لا معنى لها.
هكذا تبدو الذات الساردة غاضبة محتجة، فيما يبدو أنها داخل حمّام نفسي للتطهر من متعلقات عقائدية وعرفية واجتماعية متأصلة، وهو أمر مفهوم من الوجهة الأناسية حين يتعلق الأمر بتماس الذات مع المكمن المسؤول عن إنتاجها، ومحاولاتها المستميتة لصقل معنى الحياة كما يفترض أن تعاش، من خلال مونولوجها الداخلي، وهو ما يفسر أيضا الصيغة الهجائية التي انبثقت من "المخلوق نصف الميت الذي يدعى ليلى".
تلك هي الأنثى الصافية، التي تخففت من شوائب إيمان العبيد، ومن ترسبات الموروث المترهلة، كما صممتها طيف الحلاج، ولو بشكل مجازي، وكما تخيلت انبعاثها كطائر الفينيق من الخراب منتصرة على قوى القهر واعتناقها للحقيقة "أعيش علاقة عشقية مع الذات جعلتني أحلق ببهجة في أجواء سرمدية ساحرة، أكاد أتلمس الحقيقة المطلقة .." وهكذا صارت أكبر من التصدع، وأقوى من كل محاولات التغييب، لتعود إلى النبع الشافي من كل ما يذكرها بالحيف الذكوري "أماه يا أغلى إنسان في الوجود لقد عدت يا أماه إليك من جبهات القتال المعتمة" بما يعني تمجيد الأمومي والنسوي والأنثوي حتى آخر مفردة.