الدولة تنفق بسخاء على التعليم .. إذن أين الخلل؟
بلغت مخصصات التعليم في ميزانية السعودية لعام 2006 ما يزيد على 87 مليار ريال أو ما يعادل 26 في المائة من الإنفاق الحكومي المتوقع. وعلى مدى عقود خصص للتعليم في السعودية نحو ربع الإنفاق الحكومي أو ما يعادل 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل معدل الإنفاق الحكومي على التعليم في السعودية واحدا من أعلى المعدلات في العالم إن لم يكن أعلاها على الإطلاق.
رغم كل ذلك، تعاني مخرجات التعليم بمختلف مراحله وتخصصاته من ترد مستمر وعدم تواؤم مع احتياجات سوق العمل، كما أن الخدمات التعليمية تشكو من اختناقات حادة, فالكثير من المدارس مستأجرة وعدد الطلاب في الفصل يتجاوز أحيانا 50 طالبا أو طالبة والطاقة الاستيعابية للجامعات لا تستطيع أن تواكب النمو في الطلب على التعليم الجامعي. ومعدل الطالب كما يظهر في الشهادة التعليمية لم يعد على الإطلاق عاكسا لمستواه الحقيقي، فالدرجات تضخمت في وقت تراجع فيه مستوى التحصيل بحدة ما يثير تساؤلا عن كفاءة ونزاهة عملية التقييم، ويؤكد أن وجود الطالب في النظام التعليمي في بلادنا أصبح مجرد إمضاء للسنوات يحصل بعدها على شهادة محتواها التعليمي الحقيقي متواضع، فحامل الشهادة الثانوية يفتقر في أحيان كثيرة إلى معارف ومهارات يفترض أن تعليمه الابتدائي كان أكثر من كاف لتزويده بها.
أحد الإخوة العرب تخرج ابنه في الثانوية العامة في السعودية بتقدير مرتفع جدا وكان على يقين أن هذا التقدير سيؤهل ابنه لدراسة الطب في بلده الأصلي، إلا أنه فوجئ بعجزه التام عن تجاوز اختبارات القبول، بل عندما تم قبوله في إحدى الكليات العلمية الأخرى لم يستطع مجاراة زملائه ولقي صعوبة كبيرة، وبتحري والده من الجامعة عن أسباب ذلك اتضح أن مستوى ابنه الحقيقي يعادل طالب لم يتجاوز تقديره 70 في المائة من خريجي النظام التعليمي في ذلك البلد، ما اضطره إلى إعادة عائلته إلى بلده الأصلي لكي يتمكن بقية أبنائه من مواصلة تعليمهم العام هناك، ما يضمن حصولهم على تعليم يؤهلهم لا تعليم يعوق مستقبلهم.
السؤال الملح والمحير في الوقت نفسه هو: كيف أن بلدا لا يعتبر فيه التعليم متميزا على الإطلاق ولا ينفق حتى جزءا مما ننفقه على التعليم، ومع ذلك استطاع أن يحقق التعليم فيه مستويات وإن كانت متواضعة، مقارنة ببلدان كثيرة في العالم، إلا أنها أعلى بكثير مما يحققه بلد ينفق على التعليم بكل هذا السخاء؟ ويؤكد أن المشكلة التي يعانيها التعليم في بلادنا أكبر وأعمق من أن تختزل في مشكلة مناهج تعليمية، فلو كانت المشكلة في المناهج لتخرج الطالب مجيدا لشيء ما، كل عيبه أنه غير متناسب مع احتياجات سوق العمل، لا أن يتخرج الطالب مفتقرا إلى الحد الأدنى من المعارف والمهارات. ما يجعل العملية التعليمية بكل مكوناتها: الإدارة التعليمية، المدرس، الطالب، والمناهج، جميعا تعاني قصورا شديدا في الأداء وترديا خطيرا في الإنتاجية ما يتطلب التدخل العاجل والحازم لوقف كل ذلك، وأن درك أن التعليم بحاجة إلى عملية إصلاح جذرية تضع حدا لهذا الهدر غير المبرر لمواردنا المالية والبشرية.
إن مستقبل بلادنا وموقعنا في هذا العالم مرهون بقدرتنا على رفع كفاءة مواردنا البشرية وتأهيلها وتطوير مستوى أدائها، ولن نمتلك إلى الأبد الموارد التي تجعلنا قادرين على المحافظة على مستوى معيشتنا بأقل جهد ممكن معتمدين بشكل شبه كامل على فائض عمالة بلدان أخرى للقيام بمعظم الجهد البشري في العملية الإنتاجية في بلادنا. ما يجعل من الضروري أن يكون من بين أكبر أولوياتنا البحث في أسباب هذا الوضع غير الطبيعي ووضع الحلول الناجعة الجريئة التي تتعامل بحزم مع جميع الأخطاء وجوانب القصور في أداء كل مشارك في العملية التعليمية، ورفع مستوى النقاش الوطني حول التعليم من مجرد حديث عن حاجة إلى إصلاح مناهج التعليم إلى دعوة إلى وضع خطة استراتيجية عاجلة توقف تردي التعليم في بلادنا وتجعل نتائجه ومخرجاته متواكبة مع حجم ما يخصص له من موارد نادرة هي الآن أقرب منها للهدر من أن تكون استثمارا في رأسمالنا البشري.