القران المقدس ... حمّام نفسي لذات معولمة ( 1 – 2 )

كل عبارة منتهية يتهددها الخطر بأن تكون أيديولوجية، لأن سلطة الإنهاء، حسب جوليا كريستيفا، هي التي تحدد الممكن في بناء الجملة، وهو ما يتأكد من خلال احتشاد الجمل الجازمة بكثافة في رواية "القران المقدس" المصممة كنص بنائي كثيف الظلال من الوجهة الأيديولوجية، حيث تضغط الحقائق المعرفية والاجتماعية على أدبيته ولا تذوب فيه، خصوصا أنها مروية من خلال سرد موضوعي، يتم بموجبه التركيز على تقديم الفعل الخارجي للشخصية وحركتها في المحيط الاجتماعي، فيما يبدو إصراراً على الاقتراب من الواقع حد مطابقته، عبر ذات نسوية معولمة ترتد للوراء لتحاكم المكان والزمان الذي أنشأها، فهي كتابة بصوت مرتفع، لدرجة تحيل الرواية إلى مرافعة نسوية ضد تاريخ القهر الذكوري. وبوعي نسوي مبالغ فيه يتم الترويج لجملة من الإسقاطات التاريخية على بطلة الرواية المريضة "ليلى" بما هي المعادل للمرأة، أو جامع النص النسوي بمعنى أدق، فليلى (المرأة) منذ القدم مريضة، مضطهدة، ومسلوبة الإرادة على المستويات كافة، حتى قبل أن يعلن قيس هذه الحقيقة من الوجهة العاطفية، ولكنها هذه المرة في السعودية وليست في العراق. والمداوية هي طيف الحلاج، وهو اسم مستعار بطبيعة الحال لكاتبة معروفة، تستعير صوت "عشتار" إلهة الحب والخصب عند السومريين، لمداواة امرأة شبه معطوبة داخل غيبوبة، إثر تعرضها لحادث كاد يودي بحياتها، أو هكذا حلمت، كما تكشف الرواية فيما بعد.
 وفيما يشبه الإنسلاخ من الوهم، تدخل ليلى حمّامها النفسي لتتخفف من أعراض الدونية والهامشية، من خلال منادمة شاقة مع "عشتار" التي تجيد "مس الروح، وتحسن تخفيف أوجاع الذاكرة" بتعبيرها، في إشارة إلى قدرة الكائن على مقاومة قوى القهر وانبعاثه من جديد، وهذا ما تفترضه إرادة الإنسان لانبثاق الحياة واستمرارية تعاقب الفصول على الأرض، والاحتجاج على ما تسميه الراوية "بؤس الحريم" للوصول بليلى إلى حالة من الصفاء "كمياه الأنهار المتدفقة من الجبال الشاهقة". وهكذا أعيد إنتاجها عبر تواصل أنثوي عميق لتصبح "مفرغة من شوائب إيمان العبيد، ومحصنة من براثن كفر الصعاليك.. أنثى مجردة من ترسبات الموروث المترهلة!".
وفق ذلك الاستحضار الأسطوري للبحث عن معنى مقنع لحياة تقوم على التعادل بين كينونتين، تتحول الرواية إلى خطاب نسوي النزعة، رغم كثرة الطرق على مفاهيم الأنوثة، فالساردة تصر على أن تعي "ليلى" المسجاة في غرفة العناية المركزة تاريخها النسوي الخاص، وتاريخ الأنثى الروحاني، لئلا تصاب بالضمور والإذلال نتيجة فقدانها ما تسميه الإحساس بسلسلتها التاريخية النضرة، وعليه تستدعي شهرزاد التي أعادت صياغة شهريار، ومريم بنت عمران، ومذر تريسا، وزينب بنت علي، ورابعة العدوية، وسمير أميس ملكة بابل، وحتى سجاح بنت الحارث مدعية النبوة، فيما يبدو حفراً عموديا بين طيات التاريخ، وفي القاع السحيق للثقافة الإنسانية، كما تشرح الساردة مهمتها في التماس مع الأسطورة، أي تقصي المدلولات التاريخية لتأليه الرمز الأنثوي، كما يتوضح في الآلهات المقدسات، عشتار، وإلهة "سن" في مدينة أور السومرية، وإلهة "أنان " و"سيبيل" الأناضولية و"ايزيس" إلهة مصر، و"أفروديت" إلهة الإغريق، وكذلك اللات والعزى آلهة الجزيرة العربية.
ذلك هو ما يفسر الجرعة الفائضة من السياسي والاجتماعي، من خلال كتابة أو نبرة نسوية تبدو محاولة مضادة لصنع ذات أكثر تماسكا، وأكثر اقتدارا على الحضور ومواجهة العالم، عوضا عن هشاشة الذات المنمّطية بالوعي القاصر، المنكّل بها نتيجة ضعفها الإنساني والاجتماعي، بحيث تبدو " لقران المقدس" وكأنها تجربة بشرية موازية من أجل البقاء، وبناء ذات حقيقية نابضة بالحياة، أي الحضور عبر "أنا" مستقلة، تمتلك صوتها، من خلال تعداد مآثر النظام الأمومي والحماسة الفارطة لكل ما هو نسوي، لأن الأنثى كما حاولت عشتار إقناع ليلى "تمثل الجانب الأكثر روحانية وإنسانية في هذا الوجود، وتتجسد قداستها بكل تألق وحميمية في نهر الأمومة الخالد. ذلك الذي لا يكل ولا يمل من التدفق بالحب والعطاء، ذلك النهر الجاري منذ الأزل يثبت دون منازع، أن للأنثى امتدادات لحقب طويلة بامتداد الأساطير والحياة نفسها".
هكذا تحاول طيف الحلاج تصعيد النماذج النسوية، حيث تهب النساء طاقة وقوة مضاعفة وهو ما يبدو واضحا حتى في قاموسهن اللغوي، مثل رباب المسحوقة اجتماعيا، والمتحدرة من بيئة شعبية لكنها تتحدث بخطابية الباحث الاجتماعي ونبرة المناضل الحقوقي، إذ تزاوج بين عبارات عامية مبتذلة تشير إلى كائن استلهم لغته من القاع الاجتماعي، وأخرى فصيحة تنم عن شخصية عارفة، ربما لأن الرواية متأتية من ذات لم تنفصل عن شخصياتها ولا عن معرفيتها ولو بشكل إجرائي، فقد تم التفكير فيها - كما يبدو - من منطلقات عولمية، وإسقاط ذلك التفكير محليا، وهو أمر يمكن تصوره لمثل هذه الروايات التي تتولد ككتابة طبيعية لعولمة على درجة من الانفتاح، منحت الفرد خصوصيته وسمحت بتعدد الأصوات، وتنوع النبرات لتأمل الواقع أو تفكيكه بمعنى أدق ومحاولة الإفصاح عن تناقضاته.
إذا، القران المقدس، محاولة لوضع ذات أو مجتمع تحت طائلة تفكير نقدي على درجة من الرغبة لتسمية الأشياء، ولكنها كنص تفتقر إلى الخيال، وهو ما ينحو بالسرد إلى السجالية ومحاولة الإقناع التي تتخللها شروحات ثقافية وأناسية وتاريخية بكثافة، الأمر الذي أدى إلى إرباك تدفق السرد، وعطل استقامته، بل أصابه بالتحجر أحيانا، لأن النقد مهما كان اتجاهه، بتصور رولان بارت، بقدر ما يتطلب هدفا تكتيكيا واستخداما اجتماعيا، يستلزم على الدوام غطاء خياليا، وهو أمر كاد يتحقق عندما تم تقديم صورة درامية حية للأم وهي تهم بدفن خلائط من الكتب السياسية والأدعية الخرافية خوفا من زوار الفجر.
www.m-alabbas.com
[email protected]

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي