مسؤول حكومي يعمل بعقلية رجل أعمال
اجتمعت في لقاء مع الدكتور صلاح العرابي وهو مسؤول حكومي وناقشت معه سؤال: لماذا لا يعمل مسؤولو الدولة بعقلية القطاع الخاص خاصة الموجودين في قطاع الخدمات, وهو تقديم خدمة مميزة بسعر تنافسي مثلما حدث في قطاع الاتصالات السعودية، ومعروف أن الدكتور صلاح العرابي أعد دراسة عن الاتجاهات الحديثة في الإدارة الحكومية شارك بها في أحد المنتديات الرسمية, اطلعت عليها واستخلصت منها المفهوم العام ووضعتها على الواقع الفعلي, حيث ظهرت اتجاهات حديثة في فكر العولمة جعلت الإدارة الحكومية تقترب كثيراً من منظمة الأعمال Business Organization من حيث توجهاتها ونظم إدارتها، فهي مطالبة بمراعاة حاجة المواطن (العميل) بـ "الخدمة المميزة" وأن تحقق في الوقت نفسه الإيراد المناسب من الخدمة المقدمة، وعلى الرغم من غرابة هذه المفاهيم بعض الشيء بالنسبة لنا، إلا أن دول مثل الإمارات وقطر أخذت في تطبيقه وحققت من ورائه نتائج باهرة، وفيما يلي نلقي مزيداً من الضوء:
أولاً: إدارة حكومية موجهة من المواطن:
أصبح المواطن السعودي أكثر وعيا وأكثر انفتاحاً على ما يدور في العالم نتيجة الثورة المعلوماتية الهائلة مما أدى لزيادة سقف طموحاته وتوقعاته لما يمكن أن تقدمه الإدارات الحكومية من خدمات، والأهم من ذلك أسلوب هذه الإدارات في التعامل معه، فمن الصعب أن يقبل المواطن اليوم أي نوع من تعليم لأبنائه، و الشيء نفسه في الخدمات الأخرى من علاج ورعاية اجتماعية وغيرها، الأمر الذي دفع الباحثين إلى مطالبة الإدارات الحكومية بالاهتمام بإجراء مسح ميداني لقياس الرأي حول الخدمة التي تقدمها، بل إننا الآن نطالب بإشراك أفراد المجتمع في القرار مثل مجلس المنطقة والغرف التجارية والمجلس البلدي للتعاون مع الإدارات الحكومية ومنحنا حرية الاختيار بين عدد من البدائل بافتراض أن المواطن هو الأقدر على اختيار أفضل البدائل من وجهة نظره، وهناك العديد من المزايا التي يمكن أن تتحقق من وراء تطبيق هذا الفكر نلخصها فيما يلي:
1- أن يشارك المستفيد من الخدمة في المسؤولية عن نوعية أداء الخدمة.
2- يقلل النظام الموجه بالمواطن من سيطرة المسؤولين على أجهزة الخدمة الحكومية، من خلال صرف الاعتمادات المالية كما يحدث عادة، حيث سيكون للمواطن صوت أكثر فعالية في تقرير صرف هذه الاعتمادات.
3- تعظيم دور المواطن في إدارة تقديم الخدمة, سوف تحث الإدارة الحكومية على التحديث وعلى ترشيد التكلفة وتحسين الخدمة.
4- يساعد النظام على تعميق التزام المواطنين تجاه المصلحة العامة.
5- ينتج النظام فرصة أفضل لتحقيق المساواة بين المواطنين وعدالة توزيع الخدمة.
ومن خلال استعراض دراسة الدكتور صلاح العرابي نجد أن التوجه الحديث في الفكر الإداري الحكومي هو الاهتمام بالمواطن وهو المستفيد من الخدمة الحكومية أياً كان نوعها، فإن ذلك يقود بالضرورة إلى قضية أكثر أهمية وهي ترشيد الإنفاق الحكومي وتعظيم العائد للمواطن من هذا الإنفاق. وهذا ما نعنيه باقتصاديات القرارات الإدارية في الإدارة الحكومية.
ثانياً : حكومة موجهة نحو تحقيق إيراد وتحسين الخدمة :
إن التوجه التقليدي للإدارة الحكومية هو الإنفاق، وكيفية تدبير الموارد في موازنة الدولة لتغطية هذا الإنفاق، ويصعب في الفكر التقليدي تصور أن هناك موظفا عاما يوجه تفكيره نحو تحقيق إيراد للحكومة ومنافسة القطاع الخاص بخدمة مميزة، فهناك مثال بسيط يوضح الفرق بين التوجه الحكومي نحو الإنفاق، والتوجه الحكومي نحو تحقيق الإيراد وتقديم خدمة، فالحكومة الكندية نظمت في مونت ريال الدورة الأولمبية في عام 1976، وخرجت منها بحجم دين عام مليار دولار، وبعدها بثماني سنوات نظمت الحكومة الأمريكية هذه الدورة في لوس أنجلوس وحققت فائضا قدره 225 مليون دولار. وهناك اتجاه آخر في الإدارة الحكومية لزيادة الدخل، وذلك عن طريق فرض رسوم على استعمال الخدمة، بدلاً من تأجيل المشاريع لعدم وجود ميزانية لها، عن طريق ما يعرف بنظام BOT لمشاريع تنقية المياه والصرف الصحي، والخدمة الصحية ومشاريع الطرق .. إلخ, على أن يصاحب ذلك ترشيد تكلفة هذه الخدمات، وإدارتها على أسس اقتصادية. هذا يدفع المنتفعين من الخدمة إلى الاقتصاد في استخدامها.
مفهوم الإنفاق لتحقيق العائد:
وهو من المفاهيم الحديثة في الإدارة الحكومية، ونشير إلى أن عقلية القطاع الخاص تركز على الاهتمام بقائمة الدخل، أي على الإيراد والمصروف، بينما في الإدارة الحكومية يتم التركيز على الإنفاق وتخفيضه إلى أقل مستوى ممكن أو إلى الدرجة التي تجعل المسؤول الحكومي يتجاهل أي إنفاق استثماري قد يدر عائداً مجزياً، لا لشيء إلا لأنه يمثل من وجهة نظره الأفضل تأجيله. فمثلا قد نؤجل الصرف على صيانة طريق، ثم نضطر إلى إعادة رصفه بالكامل، أو أن يتم تجاهل الرعاية الصحية على الأمهات الحوامل بحجة التوفير، ثم تصرف مبالغ طائلة على رعاية الأطفال حديثي الولادة, أو عدم استثمار مواقع مهمة تخص البلديات التي تضربها الشمس, وإذا أرد المواطن استثمارها دخل معهم في عراك البيروقراطية. لهذا فإن الإدارة الحكومية في حاجة إلى دماء جديدة والى مسؤولين على درجة عالية من الكفاءة والمرونة في اتخاذ القرار. يفكرون ويتخذون قراراتهم بعقلية رجل الأعمال، والمبرر وراء ذلك أنه إذا ظل المسؤولون الحكوميون يعملون بالصورة التقليدية، فلا أمل في كيفية تقديم خدمة مميزة وتحقيق إيرادات للدولة، وبالتالي فليس هناك أمل في قضية العائد على الاستثمار الحكومي، لذا كان التفكير في كيفية حث المسؤولين الحكوميين على القيام بذلك، وهناك العديد من المقترحات في هذا الصدد. وهي وضع نظام جديد متكامل لتحفيز المسؤولين في الإدارات الحكومية وهو تقديم خدمة مميزة وتحقيق عوائد، لذا فقد ظهر اتجاه الآن في بعض الدول الخليجية خاصة في دبي بمنح الإدارات الحكومية ووحدات الإدارة المحلية الحق في نسبة من العائد الذي تحققه في الموازنة العامة، وكذلك نسبة من الإيرادات التي تحققها أكبر مما هو مخطط لها مع إلزامهم بخدمة أولا. لأن المشكلة أنه نادراً ما نجد إدارة حكومية تعرف حقيقة ما تتكلفه الخدمة التي تقدمها للمواطن, وهي أكثر من الاعتمادات الموجودة في الموازنة الحكومية، حيث إن هناك تكاليف غير مباشرة كثيرة وغير منظورة, وأعتقد أن مسؤولية وزارة التخطيط حساب التكلفة الحقيقية للخدمة التي تقدمها الإدارات الحكومية، حتى نقف على اقتصاديات تقديم هذه الخدمة، وهل من الأفضل أن تتعاقد على تقديم الخدمة، مثال ذلك وزارة الصحة تصرف ميزانية خيالية لمستشفى الملك فهد في جدة والشكاوى مستمرة من الخدمة, مع أنها بالميزانية نفسها تستطيع أن تتعاقد مع القطاع الخاص مثل مستشفى فقيه وعرفان وبترجي وهم على استعداد لتقديم الخدمات نفسها لجميع المراجعين وبصورة أفضل؟ ختاما يقول المسؤولون الحكوميون إنهم محكومون بأنظمة مقيدة ليس فيها أي مجال للإبداع الإداري أو الاستثماري, لذلك التقيد بالأنظمة أفضل وسيلة للترقية الوظيفية.