متى يُعلن جنون رجاء الصانع؟!
حين أصدرت جوانا روس كتابها "كيف تقهر كتابات النساء" لم تكن تقدم دليلا إرشاديا للرجل ليتفنن في تهميش المرأة الكاتبة، بقدر ما كانت تحلل سيرة الإقصاء الذكوري للمرأة من عالم اللغة الذي اعتبره جاك لاكان مسألة ذكورية بامتياز، حيث استعرضت أنواع التمييزات المستخدمة ضد الأدب النسائي لتحقيره وإبقائه متدنيا إنسانيا وفنيا. وقد نقلت عنها منى حلمي في العدد الأول من مجلة الكاتبة جملة من التحيزات تحت عنوان "هي التي كتبت" كما قام الغذامي بتعريب تلك الحجج في كتابه "المرأة واللغة" دون إشارة إلى مصدرها.
رحلة الإعاقة أو التبخيس تبدأ، حسب جوانا روس، بالتشكيك في أن المرأة هي التي كتبت بنفسها، واستشهدت في هذا الصدد بحالة فرجينيا وولف فقد اتهمت بأن زوجها ليونارد وولف يكتب لها. وإذا ما تم الاعترف بأن المرأة هي التي كتبت فهناك اتهام جاهز مفاده أن ما كتبت عنه لا يتعدى الأمور التافهة التي تعكس اهتمامات المرأة المحدودة مثل المطبخ، والأطفال، وغيرتها من نساء أخريات ، ولهاثها الدائم وراء الرجل. وإذا ما تم الإقرار بأنها هي حقا من كتبت، فبالتأكيد هناك من ساعدها، على الأقل، في الصياغة وفي الوصول إلى الشكل النهائي، وعليه يتم البحث عن هذا الأحد.
عند هذا المفصل تبدأ مرحلة التحفظ الفني، فهي التي كتبت بالفعل، ولكنها ليست أديبة حقيقية، فما تكتبه لا ينتمي إلى جنس الأدب، وعليه تظهر بعض الأصوات التي تقر بأنها حقا هي التي كتبت ولكنها نسخة مكررة ومشوهة من ذلك الرجل الأديب المشهور، وهي حقا كتبت ولكن ما كتبت لن يعمّر طويلا ولن يكتب له الخلود في قائمة الأدب العظيم، ليبقى السؤال التقويضي الأكبر عن علاقة المرأة باللغة والكتابة، فهي حقا كتبت، ولكن ما الذي دفعها أساسا إلى الإمساك بالقلم. وكل ذلك يتم وفق خطة توصلها إما إلى التوبة عن الكتابة وإما تدفعها إلى الجنون.
وبالتأكيد لا تواجه كل امرأة كاتبة مثل هذا التآمر الذكوري، لكن بعض آلياته اعتمدت مع مي زيادة، وملك حفني ناصف (باحثة البادية) وأحلام مستغانمي والشاعرة الأفغانية ناديا أنجومن وهكذا. ويمكن تلمس ملامح من هذا القهر مع رجاء الصانع بعد إصدار روايتها "بنات الرياض" فرغم محاولات التهميش القصوى تحت ذرائع متعددة إلا أن الرواية حظيت بشعبية ومقروئية واسعة، وحينها تحركت مفاعيل السلطة والتعقيم الاجتماعي لفرملتها، فالداعية والشاعر عبدالرحمن العشماوي حاكمها من منطلقات دينية وأخلاقية، فيما يشبه الاستتابة، والناقد عبد الله السمطي حاول تحقيرها دون أن يكلف نفسه عناء قراءتها باعترافه، والصحفي عبدالله بخيت تقصى زمنيتها ليثير جملة من الأسئلة حول الكاتب الذي كتبها أو ساعد على الأقل في صياغتها، وألمح إلى نكهة فحولة مستبطنة في الرواية، والروائي أحمد الدويحي استصرخ عبدالرحمن منيف من قبره ليرى حال ومآل الأدب بعد أن تجرأت عليه طبيبة شابة ومدت قامتها إلى ملكوت اللغة والكتابة، حتى منتدى "جسد الثقافة" الموقع الإلكتروني الذي تهجت فيه رجاء ألف باء الكتابة، صار بالنسبة إلى بعض حراس الأدب الجدد حزاما تتلقى من تحته الضربات، لدرجة أن البعض زعم درايته بالكاتب الذي تقنّع اسم رجاء وغامر بتسميته.
قد تكون "بنات الرياض" رواية عادية، وهي رواية محظوظة بالفعل ليس بسبب الاحتفاء العربي المبكر بها حيث لخصّها عبده وازن بشيء من التبجيل تحت مسمى النقد، ولا لأن أمجد ناصر اعتبرها فضحاً جماليا لمجتمع غامض حياتيا، معقد حداثيا، وليس لأن رجاء الصانع توزعت عبر حوارات إعلامية باذخة، ولكن لأنها بالفعل تحمل شيئا من الإثارة وإرادة الاختلاف من الوجهة الموضوعية، والفنية إلى حد ما، فقد هتكت شيئا من المحظور الاجتماعي، والأهم أنها، بعد كل هذا الضجيج، أحدثت بعض الخلخلة في البنى المتكلسة، أي الوعي الاجتماعي الديني الذي أراد خداع الآخرين بتزحزحه عن مواضعه، وأسطورة الأدب الرفيع الذي ينفي الإنسان عن ذاته، كما فضحت حالات مرضية من الفكر النقدي الذي لا يحضر إلى للجم الأصوات أو الترويج لمنتجات إبداعية مغشوشة، وبالتأكيد كشفت عن مكامن الغيرة النسوية، ورهاب الروائيين، وعصاب الأجيال الثقافية، وأبانت عن وجود قارئ غير مبرأ من الترسبات النفسية والاعتقادات الذهنية وأحكام القيمة المسبقة.
بفطرية أنثوية أثارت حس التلصص عند المتلقي لتجعل من الماكينة الإعلامية رافعة لنصها. والذين حاولوا وضع العصي في دواليب مسيرتها صنعوا منها حدثا ثقافيا بامتياز، بل أمثولة روائية سيحاول الكثيرون الكشف عن سرها والاقتداء بها. هذا ما يفصح عنه لا شعور المشهد الثقافي، ففي النهاية "بنات الرياض" نص قابل للتأويل ويحتمل مقروئيات متعددة، تعضيدية أو رافضة، ولن تكون اللحظة هي العمر الافتراضي النهائي لتأملات التلقي هذه، بل ستمتد داخل الزمن، ولعل بعض إثارتها يعود إلى أن من يقاربها يتحتم عليه بشكل أو بآخر أن يكون جزءا منها، ففي الرواية ما يكفي من الأدلة -النصية- التي تستدعي أن يتحسس المبدعون البطحات المتحجرة فوق وداخل رؤوسهم.
في كل ذلك التراكم السجالي رهان على وعي قرائي على درجة من التنامي ليموضعها في مكانها الصحيح، لأنها ككل الأعمال الإبداعية تخضع للناقد الأكبر وهو الزمن. المهم ألا تبحث رجاء عن قارئ يمارس التصعيد الأخلاقي والوعظي ليستتيبها فنيا وموضوعيا عن ارتكاباتها السردية، لأن "بنات الرياض" بتصور المجتمع البطرياركي ميثاق سيرة مموه، يحاول فضح الجميع وليس التعبير المتطرف عن نزوة ذاتية، ولذلك ينبغي العودة عنه، فقد بدأ التلميح بجنون من تجرأ على إعلانه، أو على الأقل تحديه ببيان يعيد سيرة خير الدين نعمان الألوسي في مخطوطه "الإصابة في منع النساء - رجاء الصانع - من الكتابة"