المشروع الشيعي في ضبابية الوضع العراقي
ضبابية الوضع العراقي حاليا وعدم وضوح الرؤية لمجريات الأحداث فيه وتحديد أوضح لحقيقة التوجهات والنيّات لدى معظم الأحزاب والتنظيمات السياسية, تجعل المراقب والمتابع للوضع العراقي غير مطمئن لمستقبله, فالكلام الذي يقال في العلن مجرد عموميات مثل الحرص على وحدة العراق وقيام نظام ديمقراطي يستوعب الجميع ونبذ الطائفية إلى آخر هذه المانشتات والشعارات الاستهلاكية, إلا أن ما يجري على أرض الواقع لن يقود العراق لترسيخ وحدة وطنية ولا قيام ديمقراطية تحتوي الجميع ولا يحميه من الانقسام الطائفي والعرقي, فاختلاط الأوراق وحالة الخوف من كل شيء السائدة في العراق اليوم وانعدام الثقة بين جميع الفرقاء بسبب سيطرة النزعة العرقية والمذهبية على العمل السياسي واستقواء بعضها على البعض الآخر هي التي أدت بالعراق لهذا الوضع الضبابي, ويتضح ذلك جليا في مواقف المكونات الأساسية الكبرى للعراق وهم السنة والشيعة العرب والأكراد, فالأكراد باتوا يساومون علنا على البقاء ضمن العراق الموحد مقابل إعطائهم مميزات خاصة بهم تجعلهم في معزل عن الجميع ومهيأين للانفصال في أي لحظة كأن تنشب حرب أهلية, كما صرح بذلك الرئيس الطالباني أكثر من مرة. والسنة العرب يبدو أنهم الطرف الأكثر خسارة حتى الآن, فهم محاصرون من الشمال بالأكراد ومن الجنوب بالمد الشيعي المدعوم إيرانيا, ولكل من الشيعة والأكراد حساباتهم الخاصة بهم ويملكان مساحة أكبر من السيطرة السياسية معززة بمليشيات مسلحة, وهو ما ليس متوافرا للعرب السنة الذين, وفي ظل هذا الوضع, باتوا مطالبين بالاندماج في الحياة السياسية وفق شروط الأكراد والشيعة أو الإقصاء عن أي مشاركة فعالة في القرار السياسي, والسنة العرب تلاحقهم تهمتان تروجان ضدهم وهما أن نظام صدام حسين كان محسوبا عليهم وهم محسوبون عليه, وأن المقاومة التي يصفها الأكراد والشيعة بالإرهاب ظهرت وتنشط في المثلث السني فقط. والمؤسف أن التهمتين استغلتا لتهميش دور العرب السنة, واتضح ذلك جليا في إصرار الأكراد والشيعة معا على ما سموه (اجتثاث) البعث باستبعاده من أي مشاركة في بناء العراق الجديد. والسنة العرب يدركون أن المقصود باستبعاد البعث هو في استخدامه (فيتو) ضد الفعاليات السنية بتهمة أن السنة هم معظم مكونات حزب البعث, وهذا ما دفع بالشيخ حارث الضاري الأمين العام لهيئة علماء المسلمين لأن يكون صريحا للغاية في كلمته أمام اجتماع المصالحة في الجامعة العربية حين أعلن وبوضوح تام, أن مشكلة العراق هي الاحتلال وأن المقاومة حق مشروع والإقصاء بشكل عام غير مقبول.
يبقي المكون الثالث للعراق وهم الشيعة, والحديث عنهم يتشعب ويطول, فالأقاويل والأحاديث عنهم رسمت لهم صورة سلبية, وقد يكون فيها شيء من مبالغة, إلا أن الوقائع التي جرت وتجرى منذ الغزو والاحتلال وما يُقال من أن الشيعة كانوا متعاطفين مع المحتل, بل هناك من يقول إنهم تعاونوا معه ولهذا السبب بدأ الغزو من الجنوب ذي الغالبية الشيعية, والممارسات التي نسبت لكثير من قياداتهم السياسية والمرجعية ضد السنة وما تقوم به بعض المليشيات الشيعية مثل فيالق "بدر" من اغتيالات لرموز السنة, وما تكشف أخيرا من وجود معتقلات سرية في وزارة الداخلية يمارس فيها أبشع صنوف التعذيب ضد سنة على وجه الخصوص. كل هذه الوقائع وضعت علامات استفهام حول المشروع الشيعي في العراق, وحول توجهات وأهداف بعض هذه القيادات والمرجعيات, خصوصا أن مَن يتصدر المشهد الشيعي المذهبي والسياسي جلهم من أصول غير عراقية وعربية, وهو ما أثار مخاوف من أنهم يمثلون امتدادا إيرانيا بالدرجة الأولى ويسعون إلى فرض سيطرة شيعية واحتكار السلطة بادعاء الأغلبية.
إن أخطر ما يلاحظ على المشروع الشيعي في العراق والذي يقوده بعض من قدم مع الاحتلال ومن أصول غير عراقية هو استغلاله للاختلاف المذهبي مع السنة, ومحاولته اللعب على هذا الاختلاف لفصل الشيعة عن السنة والذي يجمعهم رابط القومية. فالبروز الشيعي الطاغي بعد الاحتلال ركب الموجة المذهبية وعمل على إذكائها, ويبدو أن هناك زعامات شيعية وافدة تعمل فعلا على زرع الفتنة الطائفية ما بين السنة والشيعة, بعضها للهيمنة على السلطة والبعض الآخر برغبة جامحة لتصفية حسابات تاريخية, إلا أن ما يطمئن فعلا وما سوف يفشل أو يعوق ذلك هو التلاحم الوطني القوي المعروف عن الشيعة والسنة العراقيين, فشيعة العراق غالبيتهم عرب أقحاح وينتسبون إلى عشائر عربية أصيلة, وهناك روابط أسرية قوية بينهم, والتآلف الوطني بين الشيعة والسنة في العراق من الشواهد الإيجابية, التي أوجدت تعايشا سلميا على الرغم من الاختلاف المذهبي طوال تاريخ العراق, إلا أنه تظل الخشية موجودة من أن ينجح في استثمار العاطفة الدينية لإذكاء الفتنة المذهبية واستغلال بسطاء الناس لهذا الغرض. ولهذا لا بد أن يتحرك قادة الشيعة العرب من أجل عدم ترك الزمام في يد من تؤدي مواقفه للإساءة لكل شيعة العراق, وأن يقفوا ضد مَن يسعى لعزل السنة عن الشيعة وضرب وحدتهم الوطنية المعروفة بكل جذورها العشائرية والعروبية, فقد آن الأوان لأن تطفأ نار الفتنة قبل اشتعالها, خصوصا أن جل الشيعة العرب لا يوافقون على هذا المشهد الشيعي الناشئ بعد الاحتلال.