نحن والآخر: نحن مَنْ ومَنْ هم؟

كان الحوار الوطني الخاص بـ "نحن والآخر: رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الثقافات العالمية" الذي عقد الأربعاء 14 شوال 1426هـ في الرياض أحد الحوارات التحضيرية الثلاثة عشر للقاء الخامس لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني الذي سوف يعقد في أبها في العاشر من شهر ذي القعدة 1426هـ. وخلال ست ساعات من النقاش والحوار المفتوح بين 60 مشاركة ومشاركا تمت مناقشة المحاور الثلاثة الرئيسة، وهي الشرعي، الحضري والثقافي، السياسي والاقتصادي. وكل محور كان مجالا ً لكثير من التعليقات وإن كان المحور الشرعي هو الذي نال مضاعف الوقت الذي كان مخصصاً له. وفي هذا كما نرى، دلالة على الهموم التي نحملها أو ربما تلك التي تحاصرنا في حدودها أو المستحوذة على جل تفكيرنا وجهدنا حتى استنفد ولم يعد لمناحي الحياة الأخرى مكان.
كان الحوار مباشرا وجريئاً في كل الاتجاهات، وساخناً منذ البداية مع افتتاح أحد المشاركين الساحة بإعلانه أننا "نحن" أهل السنة والجماعة ومن سوى ذلك فهم مبتدعة. وأنه من الأولى أن ندعو "الآخر" بـ"المخالف" وهو الكافر لا فرق بين أهل كتاب أو مشركين. وأيده في قوله عدد من المشاركات والمشاركين ممن يقدّمون لخطابهم بأنهم المعتدلون الوسطيون، وأنه تبعاً لذلك علينا ألا نشعر بالاستحياء من إطلاق لقب الكافر على غير المسلمين فهذا غاية الاعتدال وأن هذا لا يقف عائقاً أمام التعاون معهم، أي مع الغرب الكافر.
وبالمقابل كانت هناك أصوات أخرى في القاعتين تطرح العديد من التساؤلات حول ما يريده مجتمعنا الذي مازال جزءا كبيرا منه يلعن الظلام ويرفض أن ينظر إلى أبعد من موطئ قدمه، يظن نفسه مالك الكون، صاحب الحقيقة الأوحد، الأفضل بين البشر، وأنه وحده المعني بخير الأمة التي أخرجت للناس. كان لا بد للحوار أن ينطلق من محاولة تحديد الـ "نحن" والـ "آخر" وهذا ما كان مدار اختلاف كبير نظراً للغائب لدينا أو عدم اعترافنا بأن مجتمعنا مجتمع متعدد المذاهب والطرق والأعراق والاتجاهات والأفكار كما كل المجتمعات الإنسانية، يحمل كل الفئات والاختلافات التي ربما يعتبرها البعض ممن لا يستطيع أن يستسيغ الاختلاف، غير مشروعة. فكما أن الغالبية تتبع المذهب الحنبلي الذي هو مذهب الدولة الرسمي، فإن هناك عددا يتبع المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية والمالكية، وهناك الطرق الصوفية المختلفة كالنقشبندية والمالكية والشاذلية والرفاعية وغيرها مما لا يمارس علانية، وهناك كما أن الغالبية سنة فهناك أقلية كبيرة من الشيعة الجعفرية وأقلية صغيرة من الإسماعيلية والنخولية، وربما هناك من لا يتبع أي مذهب وأي طريقة، وربما أي دين، فنحن لا ندري بقلوب البشر. وهو ما أشار إليه عدد من المشاركين، فالله هو أعلم بالقلوب والعقائد. وهناك أعراق وأجناس متعددة، منها من سكن الجزيرة منذ ما قبل الإسلام ومنها من ورد عليها بعد الإسلام من المجاورين وغيرهم ممن كانوا يرجون البر والتقوى باستقرارهم إلى جوار الحرمين، ومنهم من ورد إليها هربا ًمن اضطهاد المسلمين، كما في مسلمي الاتحاد السوفياتي سابقاً، ومنهم من ورد إليها مع التجارة وطلب العلم، ومنهم من سُرق أو اتُجر به في أسواق النخاسة وهكذا. ومنهم في العصر الحديث من ورد عليها مع الطفرة النفطية واستقدام الكفاءات العربية والمسلمة. وهناك الاختلافات المناطقية، فالمملكة شبه قارة تحوي عدداً كبيراً من المناطق وهناك تقسيمات أخرى تتبع كل منطقة، وهناك الاختلافات القبلية، فقبائل المملكة عددها كبير وكذلك عدد ما يتبعها من فخوذ وبطون وأحلاف، ومنها ما أخرج من فئة القبائل، وهناك الحضر من سكان المدن والقرى، كل هذه الجموع من الخلفيات المختلفة مزجها الإسلام منذ أربعة عشر قرناً وحولها إلى طاقة تثري ثقافة المجتمع بالتعددية التي تكونت فيه عبر القرون وورثناها في عصر الدولة الحديثة وبحاجة "نحن" إلى أن نتعرف على ذواتنا حتى نفعل هذا الثراء الثقافي.
ومفهوم "الآخر" نال أيضاً الكثير من التعريفات التي كان منها ما هو في محله وكان منها ما هو غارق في التعميم. فوفق تعريف مركز الحوار الوطني في تقديمه لموضوع الحوار، فإنهم اصطلحوا على أن الآخر يقصد به الثقافات العالمية وتحديداً الغرب. في حين أن الآخر في تعريفه الأعم يشمل كلا من هو ليس "أنا", وبناء على تعريفي لذاتي يمكنني الوصول إلى تعريف من هو الآخر الذي أعنيه، وفي الواقع فإن كل مستوى من مستويات الهوية يحمل آخر ما، فالرجل يعتبر الآخر بالنسبة لمستوى هويتي الجنسوي، والحساوي يعتبر الآخر بالنسبة لمستوى هويتي المناطقية، والعربي غير السعودي يعتبر الآخر بالنسبة لمستوى هويتي الوطنية، والمسلم غير العربي يعتبر الآخر بالنسبة لهويتي العربية وغير المسلم غير العربي سواء من الشرق أو الغرب يعتبر الآخر بالنسبة لهويتي العربية الإسلامية. لكن ذلك الآخر تقوم علاقتي به فضلاً عن مستويات الهوية على أساس علاقات القوة والسلطة، وربما أن هذا موضوع يحتاج إلى أن يُفرد له ليُستوفى. لكن المراد هو الوصول إلى تحديد بسيط حتى يمكن وضع أطر للتعامل والفهم.
إن الآخر بالنسبة إلينا نحن الشعب المستهلك، هو المنتج، المصنّع، المخترع، المفكر. أو مستهلك النفط بالنسبة إلى هويتنا كمنتجين للنفط. ومن هنا نصل إلى علاقتنا بأنفسنا. هناك من يريد أن يقصر علاقتنا بالعالم الصناعي المنتج المفكر على استيراد منتجاته ونبذ ثقافته، في حين أن المنتج لا ينفصل عن الثقافة دوماً أو على الأقل فإن طريقتنا في تحويل المنتج إلى ثقافتنا يعمل على مسخ هذا المنتج وتحويله عن وجهته الأساسية. ويخطر ببالي مخترعات كالإنترنت الذي حولنا طاقاته إلى وظيفة وحيدة وهي (التشات) مع بعض المبالغة من طرفي. وحولنا طاقة الجوال، وسيلة الاتصال الأسرع، ووسيلة الاستفادة من الوقت ومن التواصل مع العالم إلى وظيفة مغازلة وتعد على خصوصيات الآخرين وإلى التهرب من الالتزام بالمواعيد. حولنا أجهزة التوزيع الصوتي ومكبراتها إلى وسيلة للإزعاج والتعدي أيضاً على راحة الناس في بيوتهم برفعها على المآذن في كل وقت وبعد كل صلاة.
وهكذا.. فإن الآخر الذي حولناه إلى غول لم يكن في الواقع يدري أو يخطر بباله أن ثقافته وفكره سوف يتحولان عندما يصلانا إلى هذه المستويات. ثم إن هذا الآخر لا ولم ينكر أن لديه قصورا وعيوبا فيعلنها ويحاول أن يصلحها وهكذا عرفنا عنها ونسعى لاستخدامها ضده في كل مناسبة، بخلاف ما نفعله من إنكار وادعاء بأننا خير البشر والأصلح والأعلم ولا نفعل بالتالي بعيوبنا سوى الدفاع عنها والإصرار عليها.
في اعتقادي أننا حتى نفهم الآخر غير السعودي أو غير العربي أو غير المسلم، نحتاج إلى أن نفهم أنفسنا أولاً. فتحقيق الحوار مع الآخر ينطلق من فهمنا لمن نحن وقبول الاختلافات الموجودة في مجتمعنا فكرياً ومذهبياً وعرقياً ومناطقياً ومن ثم يمكننا أن نتحاور مع الآخر سواء في بلادنا أو خارجها، على أساس من احترام الاختلاف والتركيز على المصالح المشتركة ومحاولة فهم الثقافة الأخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي