قراءة في دفاتر السعودة

قضية السعودة من القضايا الرئيسية في المملكة العربية السعودية, فالبديهي أن يتولى أبناء البلد مقدرات ومسؤوليات وطنهم ليمضوا به قدما نحو الرقي والرخاء.
وقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع الذي قد يعتبره البعض شأنا سعوديا خالصا, أنني تشرفت بالمشاركة على مدى 14 عاما متصلة وسنوات أخرى متفرقة في تحقيق هذا الهدف السامي. واكتسبت عبر هذه الرحلة الكثير من الدروس التي لا أرى بأسا في طرحها.
في عام 1517م احتل سليم الأول العثماني مصر بعد انتصاره على السلطان المملوكي قنصوة الغوري في مرج دابق وعلى خليفته طومانباي في الريدانية (العباسية), وكان الغوري قد حكم أكثر من 40 عاما ونجح في إنشاء بنية أساسية جيدة, وتصدى للبرتغاليين في حروب متقطعة, ولكن رفضه لشراء المدافع حتى لا يهين "فروسية" المماليك, جعله يسقط شأن كل رافضي العلم والتقنيات.
الحدث الجلل في الغزو العثماني, كان تجريد مصر من عمالها المهرة, مما أسفر عنه سقوطها في هاوية التخلف حتى عام 1805 عندما جاء محمد علي بمشروعه النهضوي الكبير. أي أن مصر دفعت نحو 300 عام من الانهيار ثمنا لفقدها العمال الذين نقلوا للآستانة, فأعطوا زخما للدولة العثمانية الصاعدة, استمر لديها نحو أربعة قرون, عندما سقطت هي تحت معاول النهضة الغربية وتكالب الأوروبيين.
أي أن العامل الماهر وليس الموظف الإداري صاحب الثوب الأنيق والقلم اللامع والتوقيع الفخم والمكتب الفاره هو الذي يصنع النهضة. وقد ردد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد, طيب الله ثراه, مرارا أن التنمية الكبرى هي تنمية الإنسان, لأنه المحور القادر على العطاء وإذا طبقنا هذا الكلام على الحالة السعودية, وجدنا أن الأولوية الأولى في السعودة يجب أن تتوجه بالدرجة الأولى إلى صنع طبقة من العمال المهرة وعمال الحرف الحيوية والقضاء على حالة الترفع التي أصابت الكثير من الشباب السعودي فاحتقروا حرفا كالحلاقة, الخبازة, وإصلاح المعدات والسيارات. وأذكر في هذا الصدد أن صديقا لي وهو صحافي يشار إليه بالبنان الآن, توجه لخطبة فتاة (هي زوجته الآن), وعندما عرفت جدتها بأنه صحافي قالت على الفور "جورنالجي ـ يا دي الفضيحة".
وأصبح "الجورنالجية" في مصر هم أكثر الناس دخلا ونفوذا.. وأعتقد أن هذا كان الحال بالنسبة لزملائي السعوديين في البداية. وكيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟
السبيل الوحيد هو التدريب المتواصل, إما بطريقة "الأسطى والصبي", وإما عبر مدارس تعليم الحرف, ثم مساعدة النابهين على بدء مشاريعهم الوليدة, وهو عمل ليس بالسهل, لأن أعدادا كبيرة من الشباب ما زالت تفكر بعقلية الطفرة التي غلب عليها الفكر الاستهلاكي على حساب التوجه الإنتاجي, الذي ترك طواعية لغير السعوديين, باعتبار أن المال يشتري لك كل شيء, وهو فكر ساد في روما القديمة عندما عم الثراء بعد غزو روما معظم دول العالم القديم. وتفرغ الرومان للاستمتاع بالطعام والشراب واللهو والخمر والصيد تاركين أمور نظافتهم ومخابزهم ومزارعهم للعبيد. حتى جاء سبارتاكوس, وهو أسير حرب انقلب عبدا وأعلن الثورة الشهيرة, التي أفاق الرومان على أثرها وبدأوا يفكرون للمرة الأولى في أهمية الأعمال البسيطة Menial Jobs. كما أن التاريخ الصيني حافل بقصص مماثلة, عهد فيها للأغراب والضعفاء بالسيطرة على الحرف الصغرى فتحكم هؤلاء في البلاد. وكان لا بد للصينيين من العودة إلى أعمالهم وتطبيق مبدأ "علمني الصيد ولا تعطني سمكة" لأن من يتعلم أصول الحرفة يمكنه الاستمرار في حياته, بتوفير أجور الآخرين وتحقيق ما يريد من إتقان في العمل, بل يمكنه توريث المهارات لأبنائه, وبدهي أن لكل حرفة مهاراتها وأسرار صنعتها, فالنجارة مثلا حرفة حافلة بالتفاصيل, وعائدها كبير ودورها في المجتمع هائل, فالنجارون يصنفون مع البناة وكذلك الحداد والسباك والسمكري وعامل الألمنيوم والزجاج.. إلخ, أما الميكانيكي فهو عصب الحركة الحرفية والأمل في صيانة رصينة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن دولة كبرى كالولايات المتحدة ترفض المتقدمين إليها كمهاجرين من بين السباكين إلا بعد اجتيازهم اختبارات شاقة ولا يساويهم في ذلك إلا الأطباء الذين يجبرون على اجتياز اختبار الممارسة هم والممرضون والممرضات قبل السماح لهم بالاقتراب من أي مريض. وهو موقف جدير بالقراءة لأنه يعكس نظرة حضارة بأكملها للعمل, فالطبيب لا يجلس على عرش متميز والسباك لا يقبع في القاع, فالجميع يعمل من أجل التنمية والرخاء وتحقيق رسالة مطلوبة.
وما أسطره الآن هو ترديد لما كتبه العديد من الزملاء السعوديين في معرض ترغيب الشباب والأجيال الجديدة في اختراق الحواجز والدخول الجريء والواثق إلى سوق العمل الشريفة. ولكني أعلم صعوبة رد الفعل ومدى تأصل رفض الحرف لدى الكثير من الجيل الجديد حيث وقر في أذهانهم أنها أعمال لا يقوم بها إلا أجناس أخرى, وهو تفكير فوقي سقيم, أو أن العائلات ستنظر إليه نظرة دونية, وهو أمر يحتاج إلى وقفة اجتماعية لأساتذة وعلماء الاجتماع لتصحيح المفهوم وتصويب الاتجاه رغم تأصله. ويجب أن نقول لشبابنا إن الدولة والوطن نسيج متكامل الألوان والأعمال والأدوار, ولا فضل لأحد على أحد لمجرد عمله, فهناك طبيب ومهندس وضابط ناجح وآخر فاشل وهناك نجار وسباك وحداد ناجح وآخر فاشل, والعبرة دائما بالنجاح.
وثمة نقطة مهمة نتوجه بها للشباب وهي أن الحكومات لا يمكن أن تبقى إلى الأبد راعية للتقاعس ولن تتمكن أي حكومة من دعم شخص لا يدعم نفسه, وأن الاتجاه العالمي الذي لا يمكن الفرار منه هو تخلي الحكومة عن خدمات اعتبرناها دائما أساسية مثل التعليم والصحة والطرق والثقافة والدعم الاجتماعي, ولا يمكن أن يقف فرد بعيدا عن ساحة العمل والعطاء ليطالب بفرص عمل مفصلة كالثوب لتصلح لرغباته.
إن المملكة العربية السعودية وطن عظيم يتطلع إلى دور أكبر يليق بحجمه وإنجازه ولن يتحقق ذلك إلا بسواعد أبنائها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي