عهد التأسيس الثاني

في المقابلة التي أجرتها محطة "إيه. بي. سي" A B C الأمريكية أخيرا مع خادم الحرمين الشريفين، لاحظ المشاهدون اهتمامه الكبير, حفظه الله,بالتحديات الاقتصادية التي تواجه اقتصادنا, وبالأخص قضية البطالة التي تقلق مضاجع قطاع عريض من السكان. وقد بدا ذلك من خلال إجاباته وتعابير وجهه الصادقة. وسبقها الجهود والقرارات التنظيمية التي اتخذها, رعاه الله, في هذا المجال. وكانت له في هذه المقابلة أقوال تعكس انشغاله واهتمامه الكبير بالهم العام مثل قوله, حفظه الله "إننى أقدر وأهتم بشعبي كما أهتم بعيوني".
وهو ما فتئ, يحفظه الله, يكرر في كل المناسبات ويشدد على جميع المسؤولين أن يولوا عناية تامة بقضايا الناس ومشاكلهم. ولقد أحبه الناس لأنهم شعروا بأنه قريب منهم، متلمس لما يشغل بالهم، هذا إضافة إلى ما حباه الله من صدق المشاعر، وعفوية غير متكلفة، وقيادية أبوية.

واستفتح الناس عهده بجملة من البشائر، وهم يأملون ويعولون كثيرا على استمرار هذه البشارات, خاصة أن إرادة المولى, عز وجل, شاءت أن تقترن بداية عهده بعدد من المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، إلى الحد الذي دعا مجلة "البيزنيس ويك" في نسختها العربية الأخيرة إلى أن تعنون موضوعا لها عن الاقتصاد السعودي بجملة تسترعى الانتباه وهو قولها: إن المملكة العربية السعودية تستعد لعهد التأسيس الثاني, فهي تستعد لإطلاق عدد من المشاريع التي تزيد قيمتها على نصف تريليون دولار، مستفيدة من عوائد نفطية لامست نحو 70 دولارا للبرميل, إضافة إلى عزمها الاستمرار في الأخذ بمجموعة من البرامج التي تهدف إلى إجراء عدد من الإصلاحات الاقتصادية المهمة سعيا إلى جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة بمزيد من المشاريع، التي سيعوِّل عليها كثيرا في فتح آفاق جديدة من فرص العمل أمام الجيل الصاعد من شباب الوطن، ومن ثم المساهمة في التصدي للتحديات العاجلة التي تواجه الاقتصاد المحلي, خاصة في مسألة معدلات البطالة المتصاعدة.
لا شك أن لكل عصر تحدياته وأولوياته. والواقع أن حسن استخدام وإدارة الموارد مع التركيز في الوقت نفسه على إحداث تنمية بشرية نوعية، يمكن بالفعل أن ينقل البلاد نحو انطلاقة كبرى تضاف إلى الجهود السابقة في مسيرة بنائنا الوطني.

أضحى معلوما لدى الجميع ما تشير إليه الإحصاءات من أن أكثر من نصف مجتمعنا هم من صغار السن. وهو هيكل سكاني يمكن أن يكون ميزة إذا أُحسن توجيهه وتأهيله، فهؤلاء يمثلون نصف الحاضر وكل المستقبل, وهم رأسمال الأمة، وطاقتها الوطنية الحقيقية. وإذا تم تأهيلهم وتعليمهم بما يناسب حاجة العصر، ضمِنا مستقبلا مشرقا لهم وللوطن. وإن أي عملية إنماء أو بناء لا تستهدفهم سيكون مآلها الفشل لأنها ستولد مشاكل عظيمة في المستقبل! والتجارب تؤكد دائما أن تأخير التصدي للتحديات إنما يزيدها صعوبة.
ولذلك كانت الجهود الحقيقة في أي مجتمع هي التي تجعل من رفع مستوى وعي شبابها العلمي والثقافي والصحي جزءا لا يتجزأ من السياسات العامة للدولة، من خلال برامج مدروسة ومناسبة لروح العصر ومتطلباته، على أن تتصف هذه البرامج بالاستمرار والثبات وتأخذ بالأولويات.
وهذا ما حدا بالمؤسسات الدولية ذات العلاقة، مثل مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية الذي انعقد في كوبنهاجن عام 1995 إلى دعوة المجتمع الدولي إلى جعل الالتزام بقضايا الشباب والتصدي لمشاكلهم التزاما دوليا.
إن واحدا من أهم التحديات التي تواجه العالم النامي ومنها منطقتنا العربية، يتمثل في تهميش دور هذه الفئة المهمة من المجتمع ، وإلى الفشل في التقرب إليها، أو الفشل في إخضاع قضاياها ومشاكلها لدراسات جادة ودقيقة.
ولا شك أن مسألة التعليم ونوعيته والبرامج التربوية الأخرى اللاصفية التي تتخذ من الحوافز المادية والمعنوية وسيلة لدفع الناشئة نحو تمجيد معالي القيم، وتخلق فيهم روح الرجولة والجدية، وتغرس فيهم قيم العمل، وتعودهم على تحمل المسؤولية، وتحبب لهم ثقافة الاعتماد على الذات، وتشجعهم على التطلع نحو معالي الأمور والترفع عن سفاسفها، لهي من أقوى الأسباب التي يمكن أن تؤهلهم ليكونوا أعضاء مؤهلين، متفاعلين ومساهمين في بناء مستقبل بلدهم. وفى الوقت نفسه تساعدهم على تحقيق ذواتهم، واستقرار أحوالهم، وضمان حصولهم على وظائف لائقة تمكنهم من بناء حياتهم وتكوين أسر مستقرة، وهو أمر أساسي لضمان انتشار السلم الاجتماعي بين أطياف المجتمع.
ولذلك كانت الدعوة المتكررة لخبراء الأمم المتحدة في تقارير التنمية التي تصدرها هذه الهيئة سنويا، هي ضرورة أن تعمل جميع الدول وبالذات منها الدول النامية على تحسين مناخ الاستثمار أمام الشركات، الكبيرة والصغيرة، محلية كانت أو أجنبية أو متعددة الجنسيات، وذلك من خلال مواجهة الفساد مواجهة جادة لا تهاون فيها، لتخفيف حدة مخاطر الاستثمارات، وتخفيض التكاليف، وإزالة العوائق أمام المنافسة. لأن الاستثمارات الجديدة هي السبيل المضمون لرفع معدلات النمو الاقتصادي، وفتح فرص عمل جديدة أمام الأعداد المتزايدة من الجيل الجديد، ومن ثم القضاء على الحلقة المفرغة في المجتمعات النامية: حلقة الفقر الذي يدفع إلى الفساد، والفساد الذي يعمق الفقر ويبقيه!
تبنى برامج مكافحة البطالة عادة على مستويين: طويل وقصير الأجل. وتعتبر السياسات المتعلقة بتحديث منظومة التعليم بما يناسب حاجة العصر ومتطلبات السوق، حلولا للأجل الطويل.
لكن سياسات الأجل القصير لا تقل أهمية. فعلى المستوى المحلى، علينا أن نرعى ونهتم أيضا بالمؤسسات الصغيرة، نظرا لأنها تشكل نسبة كبيرة من حجم المشاريع في القطاع الخاص، وتعتبر رافداً مهما من روافد الاقتصاد ليس فقط في بلادنا بل في دول العالم كافة. فهذه المؤسسات ينظر إليها على أنها عامل مؤثر لحماية المجتمع من البطالة. لأنها تشكل ما بين 40 في المائة و70 في المائة من حجم المشاريع التجارية والاستثمارية في كثير من دول العالم. ففي الولايات المتحدة تشكل نحو 66 في المائة من مجمل المؤسسات التجارية، ونحو 45 في المائة في بريطانيا وألمانيا، بينما تصل إلى نحو 70 في المائة في اليابان . وكذا الأمر في اقتصادنا, فالمؤسسات الصغيرة هي الأكثر عددا والأكثر أهمية كمجموع ، وإن لم تكن الأكثر قوة بالنظر إلى رأسمالها وعدد موظفيها .
ولكن نظرا لكون هذه المؤسسات صغيرة في حجم رأسمالها، فإن المحافظة على بقائها يستدعي أن تكون لها معاملة خاصة. فإن العقبات الإدارية والإجراءات الحكومية المعقدة تخنقها في مهدها، فما ينطبق على الوضع الوظيفي في المؤسسات الكبرى والمتمكنة مالياً وإداريا، لا ينطبق على المشاريع الصغيرة. وإذا وئدت هذه المؤسسات في مهدها بسبب مطالبات تنظيمية تتعدى طاقتها وقدرتها على البقاء في السوق، نكون قد أضفنا إلى مجموع العاطلين بدلا من أن نساعد على امتصاص حدة البطالة.

ومن هذا المنطلق يجب علينا ونحن نعمل على تطبيق سياسة السعودة أن نصل إلى صيغة مرضية لجميع الأطراف ذات العلاقة: صاحب المؤسسة, الأجير الموظف، ووزارة العمل. بشكل يلبي ضرورات السياسة العامة ولكن في الوقت نفسه يضمن استمرار وبقاء المؤسسة ذاتها.
إن سن وتطوير القوانين المحفزة للاستثمار، والعمل على مكافحة الفساد وتشجيع قيام المؤسسات الصغيرة وحمايتها قولا وفعلا من التعقيدات الإدارية وتبسيط الإجراءات الحكومية، وإصلاح منظومة التعليم بما يتناسب مع متطلبات العصر واحتياجات القطاع الخاص، وتسهيل إجراءات وآليات إصدار التراخيص للقطاع الخاص في مجال التعليم بكل مستوياته، لهي من أهم أسباب بلوغ الغايات وتحقيق الطموحات المتعلقة بتبني ورعاية وحماية هذه الفئة الفتية المهمة من السكان, وهي, في نظري, السبيل الذي يمكننا من التصدي لمشاكلها وأهمها مشكلة البطالة التي تقلقنا جميعا سواء في الأمد المنظور أو البعيد.
ومهما كانت سلبيات هذه الفئة فيجب ألا نقف عند مجرد وصف ضعف حالهم والهروب من التصدي لمشكلهم. بل نحن مسؤولون كلنا كمجتمع عن البحث عن أفضل السبل والخطط لرفع مستواها وحسن توجيهها، فأصحاب هذه الفئة منا ونحن منهم وتأهيلهم مسؤوليتنا جميعا، وإن نجاحهم هو نجاح لنا وللأمة، وفشلهم هو عار علينا وعلى الأمة جمعاء!
إن المجتمعات تحصد ما تزرع.

* أستاذ الاقتصاد - جامعة الملك عبد العزيز

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي