"بيشة" و"أنعام" وحل السوق الثانية

وفقا للوائح المنظمة لأعمالها تدخلت هيئة السوق المالية لحماية السوق أكثر من مرة وهذا أمر رائع وطموح حق ومن أجله كافح من كافح لظهور الهيئة وإنشائها. أوقفت الهيئة عددا من المتداولين وأحالت البعض إلى التحقيق والمحاكمة واتخذت ضدهم إجراءات رادعة، وكل ذلك عمل حقيقي لحماية السوق وتوعية المتداولين. لكن قضية "بيشة" و"أنعام" بدت لي مختلفة نوعا ما, وتحتاج من الهيئة إلى دراسة شاملة لهذا الموضوع وعدم الوقوف عند تعليق تداول هاتين الشركتين في السوق السعودية ورفع القضايا الهامشية على مجلس الإدارة.
قبل أكثر من عامين أعلنت الهيئة تعليق التداول بسهم شركتي "بيشة" و"أنعام القابضة" لأن الخسائر في القوائم المالية بلغت نسبة كبيرة من رأسمال الشركتين واشترطت الهيئة زوال الأسباب للعودة للتداول أي شطب ما يعادل الخسائر من رأس المال أو تخفيض نسبتها برفع رأس المال – إن تم لهم ذلك - لكي تعود الشركة إلى التداول. هذه القرارات جاءت بناءً على نظام السوق المالية الذي يمنح الهيئة حق منع أي ورقة مالية في السوق أو تعليق إصدارها، أو تداولها, كما أن قواعد التسجيل والإدراج تعطي الهيئة الحق أيضا في تعليق الإدراج أو إلغائه إذا رأت أن مستوى عمليات المُصدر (أي الشركة ) أو "أصوله" لا تبرر التداول "المستمر" في أوراقه المالية في السوق.
كل هذا لا غبار عليه ولذلك جاءت قرارات التعليق قانونية، وإلى حد ما متميزة وشجاعة وكل ما يمكن قوله، ولكن هل يحق للهيئة أن تمنع تداول أسهم الشركة نهائيا وبأي صورة في أي مكان؟ بمعنى آخر هل يحق للهيئة أن تمنع شراء أو بيع أسهم هذه الشركات أو غيرها خارج السوق بأي صورة من صور البيع المعتبرة شرعا؟ إذا قلنا نعم يجوز لها فلن أسأل عن الكيفية التي تمكنها من منع البيع ولكني سأسأل عن قانونية وشرعية ذلك. فقرار من هذا النوع يلغي الوضع القانوني للشركة ويحولها من شركة مساهمة إلى مغلقة أو مسؤولية محدودة، وهذا غير جائز لأنه حق قاصر على الجمعية العامة فقط, وبهذا تنص مواد نظام الشركات السعودية, بل إنني أرى ألا تتورط الهيئة بمثل هذه الإشكالية القانونية أكثر من ذلك. كما أن التأخر المبالغ فيه بإعادة هاتين الشركتين للتداول فيه سلب لحق ملاكها عن تداولها بالبيع والشراء بأي طريقة، وقد أسهموا فيها وفقا لهذا الشرط الشرعي والمحافظة عليه شرط لبقاء الشركة بل إن تعطيله يثير مسائل حقيقية حول مشروعية ونظامية بقاء الشركة ككل.
والآن وقد تم التعليق لأكثر من سنتين هل فعلا استطاعت الهيئة حماية السوق والوصول إلى تقييم جيد وعادل لأدواته؟ عندما تنتهي مشكلة "بيشة" وقد تعافت السوق حينها، هل فعلا عكس تصرف الهيئة استقلالا تاما عن السوق والتسعير أم أنها منحت ملاك "بيشة" – بقصد أو دون قصد - فرصة لم تمنحها لغيرهم، وقد طالب الكثير بإيقاف السوق عندما اندلعت الأزمة المالية وانكشفت آثارها؟ ألم يظلم ملاك شركات مثل: "القصيم الزراعية"، "الأسماك"، "سيسكو"، و"فيبكو" وغيرها من أسهم مضاربات لم تختلف كثيرا عن حركة سهم "بيشة"؟ ألم يستفيد ملاك شركة أنعام أكثر من غيرهم ودون وجه حق بتعليق تداولها في الأوقات الصعبة وإعادتها لساعة فقط وفي يومين؟ ألم يسهم هذا في إيقاف تدهور السهم وتسعيره بشكل عادل (وفقا لآلية السوق)، مثلما حصل مع سهم المملكة القابضة مثلا؟ هل فعلا حققت الهيئة من خلال قرارها العدالة في السوق وتساوي الفرص؟ ألم تمنح هيئة السوق الأمريكية سوقها فرصة لتقييم عادل لسهم شركة أنرون وهي تعلن التلاعب بالقوائم المالية ورئيسها ومراجع حساباتها يواجهان تهما خطيرة وتجريما وهي حالة أشد خطرا من "أنعام" و"بيشة".
نعم كنت مع القرار بادئ أمره لأننا نود إشعار السوق بمكانة الهيئة وأهمية السوق وسلامتها, ولكنني لست مع سلب حرية الناس باسم تلك السلامة. كنت أتمنى أن يكون ذلك القرار بادرة جيدة لتتخذ الهيئة قرراها الجريء والضروري والذي تأخر كثيرا وهو إنشاء سوق ثانية تتولى التعامل مع مثل هذه الحالات المتعثرة. إنشاء هذه السوق سيحل مشكلات قانونية وفنية كثيرة جدا, وقد بادرت الهيئة بدراسة المشروع ثم توقفت عنه دون إبداء الأسباب. ما هو الفرق الجوهري الذي يدعو شركات التأمين للبقاء في السوق؟ بينما على متداولي "أنعام" أن ينعموا ـ أو يغبنوا - بالتداول خارجه بصورة غير مفهومة لا فنيا ولا نظاميا؟ كيف يمكن قبول تداول "أنعام" بمثل هذه الصورة الغريبة وعلى السوق أن تستوعب ذلك بينما لا يمكنها أن تستوعب السوق الثانية؟
السوق الثانية هل يجب أن نمتلك الشجاعة لطرحها. فالسوق قادرة على استيعاب هذه التقسيمة، خاصة أن هذا المشروع قد أخذ حظا أوفر من النقاش والعرض والتداول وأصبح أمرا مفهوما إلى حد بعيد. السوق الثانية ستقدم فرصة للسوق لتميز الجيد من الرديء وفرصة للهيئة لمعاقبة الشركات التي ترفض الانضباط لقواعد الإدراج والإفصاح والحوكمة. ستقدم السوق الثانية فرصة للهيئة أن تكون مستقلة تماما عن عمليات البيع والتسعير في السوق وتعطي جميع الشركات فرصا متساوية وعادلة حقيقية. السوق الثانية ستعطي لملاك الشركات الخاسرة الحق والوقت الكافي لاتخاذ قرارات البيع والشراء أو الصبر على الإدارة بكل حرية وبعيدا عن ضغوط الهيئة وتهديدها. السوق الثانية لا تتعارض مع فكرة تعميق السوق أبدا, بل ستحقق فرصة لتنويع المحافظ وفقا لمنهج أفضل لتقييم المخاطر. من خلال السوق الثانية يمكن عزل الشركات غير القادرة على توزيع الأرباح، غير القادرة على المحافظة على النمو وغير القادرة على المنافسة, وذلك عن الشركات القادرة على ذلك. بمشروع السوق الثانية يمكن مكافأة النجاح ومعاقبة الخطأ. يمكن لنا جميعا أن نطالب اليوم بتعليق تداول سهم "سابك" وطلب إدراجها في سوق ثانية, لأنها أضرت بنا ولأن قراراتها ونتائجها أضرت بالسوق كثيرا وبالشركات الجيدة فيه. بمشروع السوق الثانية نساعد السوق الناضجة والشركات الفاعلة لتحرر من أثر سهم "سابك" وغيره من الأسهم القيادية التي بدأت تفقد بريقها. السوق الثانية حل وليست مشكلة في نظري ولكن الحل يحتاج إلى شجاعة قرار ومواجهة نفوذ وهو اختبار جاد وقوي لاستقلال الهيئة عن صناع السوق وإدارات الشركات التي تحارب المشروع, لأنه سيكشف عوراها إن هي أخلت بحقوق المساهمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي