جِمَال السمسم
تخرج المواطن صالح في إحدى أعرق الجامعات، وبتقدير امتياز. حدث ذلك منذ 20 عاماً، وكغيره من الخريجين، لجأ صالح للوظيفة الحكومية لأسباب على رأسها الأمان الوظيفي. كان موظفاً مثالياً (بالمعيار الغربي لا السعودي). كان ملتزماً بساعات الدوام وبشكل مبالغ فيه، إذ كان يقضي أحيانا ساعات إضافية في العمل على حساب بيته، لإنجاز بعض العمل الذي لم يسعفه وقت الدوام الرسمي لإنجازه، على الرغم من أنه لا يتقاضى راتبا إضافيا على ذلك، بحجة أن البند لا يسمح بخارج الدوام، وفي المقابل يرى رئيسه يحصل على الانتدابات الداخلية والخارجية وهو لم يغادر مكتبه أحياناً.
كان ولاؤه للوظيفة وحبه لعمله يمنعه أحيانا من الالتحاق ببعض الدورات، ويُضعف الحماس لها، أن هذا التدريب إما ضعيف، أو لا يرتبط مباشرة بعمله. كان لديه الكثير من الأفكار التطويرية التي تصطدم بالجمود الذي يتسم به من هم في سلسلة الهرم الإداري الذي يسبقه، ومع ذلك مازال أمله منعقداً بأنه سيكون يوماً من الأيام على قمة هذا الهرم الإداري، بحيث يستطيع تطبيق الأفكار التطويرية التي تنهض بأعمال إدارته. وكان مرجعاً لجميع موظفي الإدارة لإخلاصه، وإتقانه أعمال الإدارة، وأفكاره النيرة، بل إنه كان ملجأً للموظفين في قضاياهم الخاصة أيضاً، لما يحمله من طيبة القلب ودماثة الخلق. تدرج صالح في السلم الوظيفي إلى المرتبة التي تؤهله ليكون على رأس الهرم الإداري، وكان لا يشك هو ولا الموظفون في أنه سيتبوأ هذا المنصب يوماً من الأيام، وأن المسألة مسألة وقت. أخيراً شغرت وظيفة وكيل الوزارة، وكان الموظفون يباركون له الترقية المرتقبة لهذه المرتبة الشاغرة الوحيدة. في هذا الوقت كان البلد يمر بطفرة من حملة الدال حديثي التخرج، وكان الدكتور هيثم قد وصل حديثاً من أمريكا، ويعمل أستاذاً مساعداً في إحدى الجامعات، ناشط في الأبحاث، ويكتب عموداً صحافياً في إحدى الصحف، وقد بدأ بسلسلة مقالات ينتقد أداء الوزارة التي يعمل فيها صالح. كان صالح يقرأ هذه المقالات ويعرف أن كل نقد من الدكتور هيثم سبق أن قدمه على هيئة تقرير بالمشكلة والحل بشكل موضوعي لا تنظيري، إلا أن مصير هذه التقارير كان الأرشيف دون قراءة.
ولتخفيف الضغط عن وزارته، ولأن الوزير لا يعرف إمكانات القيادات من حوله، فقد قرر أن يعين د. هيثم وكيلاً للوزارة. أدار الدكتور الوزارة بعقلية الأستاذ والطالب، وما أريكم إلا ما أرى، وكان الفشل مصاحباً لإدارته لافتقاره إلى الخبرة ومهارات القيادة الإدارية التي لا تأتي مع الدكتوراة، كما فقد مهاراته البحثية. أما صالح فقد قدم استقالته وتلقفه قطاع الأعمال ليواصل إبداعه.
حالة صالح ليست استثناء، فهي تحدث في القطاع الحكومي وفي مختلف المراتب. إن شهادة الدكتوراة ما هي إلا دليل على أن هذا الشخص لديه مهارات وأصول البحث العلمي، وليس الأداء الإداري. والقيادة الإدارية لها متطلبات من المؤكد أن ليس من بينها شهادة الدكتوراة، ومن النادر في العالم المتقدم أن تجد حملة الدكتوراة خارج مراكز الأبحاث أو الجامعات. إن استقطاب الآخرين من خارج المنظمة دون تبرير كافٍ، له أضراره الوظيفية، وبالتالي النفسية على العاملين الطامحين إلى الارتقاء الوظيفي، وسبب رئيس لانخفاض الولاء الوظيفي. وأنظمة الخدمة يجب أن تحمي هؤلاء الموظفين من هذه القرارات التعسفية التي تعصف بمستقبلهم الوظيفي، وقد تكون سبباً في التخلف الإداري.
في الختام لقد أحس صالح بأنه كان جملاً في معصرة السمسم، الذي يسير معصوب العينين أملاً في الوصول إلى مراتع الرعي الخصبة، فخسرت الوزارة إبداعات صالح، وخسر الوطن ولاءه. ودمتم بخير.
* دكتوراة في المعلوماتية الحيوية وحوسبة الأحياء
مؤهل عالٍ في حوسبة العلوم الاجتماعية
[email protected]