اختبارات البنوة ..كيف نتعامل معها؟ (2 من 2)

[email protected]

تحدثت في المقال السابق عن دقة اختبارات البنوة، وأنه يمكن بواسطة هذه الاختبارات تحديد نسب الطفل إلى أحد الأبوين أو كليهما عند مقارنة حمضه النووي معهما. وأن هذه الاختبارات أصبحت متوافرة، سواء بشكل تجاري (علني أو سري)، أو رسمي. والخطورة الشديدة تكمن في استطاعة أي شخص أن يتحقق من بنوة أي شخص لآخر حتى دون علمه، شرط حصوله على مواد يمكن استخلاص الحمض النووي منها، كعينة الدم أو اللعاب أو غيرها من المواد البيولوجية. وطرحنا عددا من التساؤلات تصب في مجملها في حقلين، أحدهما أخلاقي، والآخر قانوني. وإجمالا كان التساؤل هو: هل يفتح الباب لإجراء هذا الاختبار لكل من رغب أم لا؟. وحتى نكون واقعيين في تعاملنا مع هذه الاختبارات، فعلينا أن نضع في الحسبان أن إجراء هذا الاختبار متوافر تقريبا في جميع دول العالم، ولا توجد قوانين تحظر إجراءه. لذا فإن مسألة إصدار قانون لمنع إجراء الاختبار ابتداءً لن يجدي نفعاً‘ وإنما ستخضع لمستوى الوعي الأخلاقي والصحة النفسية لدى الأفراد لا المجتمع. وعلينا أن نحصر التنظيم القانوني والقضائي في كيفية التعامل مع هذه النتائج في حال تقدم بها شخص ما لإثبات أو نفي نسب إنسان ما.
والقضاء السعودي حسم - في وقت وجيز وفي سابقة قضائية تعكس وعي قضاتنا- مسألة التنازع على البنوة اعتماداً على نتائج الاختبار، كما حدث في قضية طفلي نجران الشهيرة، والقضاء المصري بدوره أيضاً حسم إثبات البنوة على الممثل الشهير رغم عدم وجود أدلة على أن الطفل ولد في نطاق مؤسسة الزوجية وادعاء الفتاة بأن زواجهما كان عرفياً، إلا أن نتائج الاختبار أثبتت نسب الطفل إلى الشاب والفتاة طرفي القضية، وبالتالي حكم القضاء المصري بإنصاف الفتاة وإثبات البنوة على الممثل الشاب، وهو ما سيستدعي تغييرات في أنظمة الأحوال الشخصية المصرية للتعامل مع مثل هذه الحالات فيما يتعلق بالنفقة والوصاية والميراث وغيرها. ولا شك أنه سيكون أمام القضاء السعودي الكثير من القضايا المشابهة، خصوصاً مع ثبوت حالات تبديل المواليد -غير المقصودة - في المستشفيات، أو سرقتهم، وحالات الحمل خارج نطاق الزواج، وتمسك المرأة أو الفتاة بالحمل وعدم الإجهاض، معتبرةً أن الخطأ لا يعالج بخطأ أكبر، ووجود عائلة شجاعة تدعم موقفها كما حدث في قضية الفتاة المصرية.
ولكن ما موقف القضاء من قضايا نفي النسب الناتج عن الشك لدى أحد الزوجين، أو ثبوت الخيانة الزوجية؟، أو في حال التنازع على الميراث وادعاء الأخوة بأن هذا الأخ أو الإخوة ليسوا من صلب والدهم أو والدتهم؟، أو في حالات وجود شبهة في الزواج، كأن لا تكون المرأة أمضت العدة المقررة شرعاً لثبات خلوها من حمل سابق قبل زواجها؟. وفي رأيي وفي كل هذه الحالات وغيرها فإن من حق هؤلاء المدعين أن يحصلوا على ما يثبت أو ينفي ادعاءهم عن طريق المحكمة، على أن يتحملوا التبعات القضائية لادعائهم في حال بطلانه، لأن المصلحة المترتبة على ذلك تفوق وبمراحل المضار التي قد تنشأ عنها، ولا يتسع المجال هنا لتفصيلها. وأن ما يجب التشديد فيه، سواء من سلطات الضبط الجنائي، أو القضاء، هو ما قد يقوم به أشخاص من غير ذوي العلاقة بعمل هذه الاختبارات لأسباب قد يكون من بينها الابتزاز أو التفرقة بين عائلات مستقرة.
كما أود أخيرا التنويه بالجهود الجبارة التي تقوم بها اللجنة الوطنية للأخلاقيات الحيوية، وعلى رأسها خبير التقنيات الحيوية الدكتور عبد العزيز السويلم، من جهود في هذه المجالات. ونرغب إليهم في أن يتبنوا عقد مؤتمر علمي يضم أهل الاختصاص من رجال القضاء وعلم الاجتماع والنفس والطب ورجال السلطة التنفيذية، لمناقشة هذا الموضوع والخروج بتوصيات مناسبة يمكن تبنيها من الجهات التشريعية العليا.

* دكتوراة في المعلوماتية الحيوية وحوسبة الأحياء
مؤهل عالٍ في حوسبة العلوم الاجتماعية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي