جماليات الفحش اللفظي البذيء والعامي تحت ضوءٍ باختيني
بقدر ما تختزن الرواية وعي كاتبها، وطبيعة المضامين التي يحاول استعراضها، تشير بالضرورة إلى فرادة قاموسه وخصوصية مزاجه، فالنص الأدبي، هو عمل فني لفظي في المقام الأول، يعتمد في جوهره على الخاصية المفرداتية. وفي هذا المكمن اللغوي يمكن اقتناص ظاهرة كتابية لافتة تتمثل في انتحاء بعض الروايات السعودية إلى الفجاجة التعبيرية. وهي حساسية لغوية منبثقة بدورها عن جرأة التماس بالموضوعات الاجتماعية الوعرة، ومتجاوزة لها في آن، خصوصاً فيما يتعلق بالفحش اللفظي، المعبّر عنه بمعجم عامي أقرب ما يكون إلى الكلام، على اعتبار أن موضوع التلفظ الذي تتشكل تمثلاته التواصلية في الفضاء الاجتماعي، هو ناتج تفاعل اللغة مع سياقات التاريخ.
ويبدو أن هذا النمط السردي المحقون بالألفاظ الخادشة للحياء آخذ في التكثّر داخل بعض المنتجات الروائية، ويراد منه، على ما يبدو، تجسيد صورة حية وصادقة للحياة الواقعية تقوم على إعلاء الهاجس الجنسي، بالنظر إلى كونه عنصر اختراق للأدب الكلاسيكي والرومانتيكي، وهو اتجاه فني مثير للتخرصات التأويلية، ويفترض تمديده كمقولة جمالية تحت طائلة الجدل النقدي، لفحص جمالياته الممكنة، وقياس ما يمكن أن يسهم به كمنطوق لهجي محلي داخل الفعل الروائي، أي قراءته وفق مفهوم باختين الشهير (الكلمة في الرواية) الذي يرى أنها أيدولوجية بطبعها، فحضورها يتجاوز الولم يقبل باختين فصل الشكلانية بين الشكل والمضمون،دلالة المعجمية، إلى مهمة التمركز في قلب النص، واستقطاب عناصره وعلاقاته النفسية والاجتماعية والتاريخية والأيدولوجية.
ذلك هو حجر الأساس في تصوره للخطاب الروائي، حيث يميل من يوصف بأنه أعظم متفحص للكلام الإنساني، إلى القول بأن نظرية الرواية تؤكد بقوة على اللحظة الجدلية الانتهاكية التي تتحكم في المسعى الروائي بوصفه تفاعلاً صراعياً بين القوى الاجتماعية والحوارية. كما ينظر إلى الرواية بوصفها شكلاً من أشكال الأدب الشعبي، أو الجنس السفلي، لدرجة أنه يرجّح كونها كجنس أدبي متحدّرة من الأجناس الأدبية الدنيا، وبالتالي فهي أداة تعبير عن الفئات والأوساط الشعبية، وهنا يكمن السر في تنوع منطلقاتها الحوارية والتناصية، فكل كلمة ملفوظة هي محل لتصارع النبرات الاجتماعية المتخالفة، كما تتمثل على لسان الشخوص في الروايات كتعبير لفظي يعكس شكل وحيوية التفاعل بين القوى الاجتماعية.
ولقياس منسوب الوعي بهذا الاتجاه الفني، عند بعض الروائيين الذين جازفوا بحقن نصوصهم بمفردات أو عبارات ذات طابع فاحش، يمكن تأمل طريقة العرض المرآوي لمراداتهم الموضوعية والفنية في جملة من الأعمال، بما هي قاعدة إنتاج اختبارية، حيث يبدو الانفعال بملفوظات الفحش صريحاً، متمادياً، بل صادماً عند يحيى اَمقاسم، الذي يبالغ في إظهار انحيازه الصريح لصقل مفردات صدئة مترّسبة في القاع الاجتماعي، متلذذاً بترديدها، للتأكيد على مقولة المطابقة البنيوية بين شكل الرواية وشكل الحياة، الأمر الذي يقرّب سرده من مراودات إحياء السجل الشعبي، وبناء الهوية المميزة لفئة اجتماعية من خلال ثقافتهم اللغوية.
في روايته (ساق الغراب) يحتل "أبو حشفة" حيزاً كبيراً من السرد، ويبعث عند الجميع متعة مخاطبته بهذا اللقب المبتدع من قاموس التواصل الشعبي، ابتداء من الأم التي بدأت حديث الأهل بممازحة حفيدها المختون قائلة "يا أبو حشفة كان شا تحرقنا قبل اليوم"، فهذا الكائن (حمود) معبأ منذ طفولته بهاجس جنسي أشبه ما يكون بعقدة القضيب الفرويدية...
هذا اللسان الفارط في جرأة التلفظ بالتعبيرات البذيئة لم يتوّلد عنده من الفراغ، ولم يخترع قاموسه من مخيلته، بل تم اجتراره من التاريخ الاجتماعي، وإعادة إنتاجه كوجود انطوقي على لسان الأم، بما هي ذاكرة شعبية قابلة للتنشيط والتوسع على ممكنات التوثيق والتسجيل، ربما نتيجة ما يضمره من إحساس بإمكانية أن ينعزل هذا اللسان المنسي عن سياقات الثقافة الجديدة، الأمر الذي يفسر تطرف تعبيراته، وكثافتها داخل السرد، فقد كانت تبدد ملفوظاتها على شكل وصايا، وكأنها توّرثه مخزون أسلافه القيمي الكامن في اللغة، وأحياناً على شكل مسامرة لا تخلو من التقريع، حيث دعته في تلك الليلة، إلى فراش والده، وبدأت تحدثه بنبرة بائسة "انقضى كل هذا التاريخ وما كُتب من أهل عُصيرة واحد في مثل لهوك ولعبك يا حمود .. وصارت شِعرَتْك شيب ورافض تكبر وتعقل". الأمر الذي يعني أنها رواية أريد لها الاحتفاء بزمن وموروث وبشر، ذوي خصوصية ثقافية، بتحريك ما تيبّس من لغتهم، واستدعاء ألفاظ فارطة في الفحش والعامية، للتأكيد على صلتها الوثيقة بكل مناشط الحياة، على اعتبار أن المنطوق المحلي، هو الخزان اللغوي المعادل للتجربة الاجتماعية المعاشة، والحامل لكل دلالاتها المحسوسة، كما تتعبأ في أشكال تواصلية مختلفة.
* من الورقة المقدمة في الملتقى الثالث للرواية في الباحة 20-23 أكتوبر 2008.