بعيداً عن أزمات الرهون.. فلنحول المستأجرين إلى ملاك
عانى كثير من المستأجرين خلال العامين الماضيين من الارتفاعات المتزايدة في إيجارات مساكنهم، جعلت غالبيتهم يتمنون لو أن لديهم مسكناً ملكاً لهم مهما كان حجمه أو نوعه؛ مصداقاً للمثل الشعبي الحجازي القائل: "بيت قد المراية (كناية عن صغره) ولا كل يوم كراية (أي: سداد الإيجار)". ومع ارتفاع الإيجارات وضغطها على ميزانية الأسر المستأجرة، استشعر المستأجرون كذلك معنى نعت الإيجارات في الموروث الشعبي بـ"الدم الفاسد"، لكونها مبالغ مالية تصرف، ولا يبقى له عائد بعد نهاية فترة الإيجار. وفي خضم الجدل القائم حول أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيرها في اقتصاديات العالم، ولأن جزءا من الأزمة ناتج عن توفير التمويل لامتلاك المساكن؛ سيُخصص هذا المقال للحديث عن التمويل الإسكاني، وأثره في تنشيط سوق الإسكان وتمكين الأسرة من الامتلاك.
يقدم التمويل الإسكاني (العقاري) جزءاً من القيمة اللازمة لشراء مسكن أو بنائه أو كلها مقابل زيادة محددة على رأس المال من قبل المؤسسات المالية. ويمكن أن يتم التمويل بصيغ مختلفة للتمويل الإسلامي (مثل: المرابحة، والإجارة مع الوعد بالبيع، والاستصناع، والمشاركة المنتهية بالمرابحة، والمشاركة المنتهية بالإجارة، والمشاركة المتناقصة، والإيجار المنتهي بالتمليك). ويُعدّ توافر التمويل من أهم العناصر المؤثرة إيجاباً في نشاط سوق الإسكان، كما أنه إحدى أهم الآليات لتمكين الأسر من امتلاك مساكنها. ولإيجاد سوق فاعل يمكِّن شركات التمويل من القيام بعملها، وحفظ حقوق جميع الأطراف؛ يلزم العمل على إصدار تشريعات تنظم العلاقة الائتمانية بين أطراف عملية التمويل، بما فيها الضمانات والرقابة والعقوبات، وخاصة التزامات المقترض في حالة عدم القدرة على السداد.
ويُعدُّ تفعيل إجراءات الرهن العقاري، وتوفير التنظيمات اللازمة لها، من أهم الأدوات الباعثة على التنافس بين المؤسسات المالية لتقديم برامج تمويل إسكاني ميسرة، فتمكين المؤسسات المالية من رهن المساكن مقابل القروض التي تقدّمها، ضمن إطار ضوابط الشريعة؛ من أهم العوامل المشجعة لظهور برامج التمويل الإسكاني الميسرة.
ولتفادي حدوث مشاكل مشابهة لمشاكل الرهن العقاري الخاصة بالمساكن في الولايات المتحدة الأمريكية؛ يلزم توعية المواطنين من خلال برامج إعلامية موجهة للتخلِّي عن الأنماط الاستهلاكية، وتشجيعهم على الادخار من أجل الإسكان منذ وقت مبكر في حياتهم الوظيفية. وتوفير برامج الادِّخار والاستثمار التي تمكِّنهم من استخدام المبلغ المدَّخر، بعد فترة محددة، بصفته دفعة مقدمة أو أولية للحصول على قرض تمويل شراء مسكن أو بنائه، فالادِّخار يُعدُّ عاملاً مساعداً لتدريب المقترض على التوفير، وعلى الالتزام بسداد الأقساط المستحقة عليه بانتظام. كما أن تقديم دفعة أولية من قيمة المسكن لا تقل عن 20 في المائة من قيمته تعد ضمانا لاستمرار التزام المقترض بسداد الأقساط المستحقة عليه حتى في حالة تهالك قيمة المسكن، فإحدى مشاكل أزمة الرهن العقاري الأمريكية هو تنصُّل المقترضين من سداد الأقساط المستحقة عليهم أمام تهالك أسعار المساكن وانخفاض قيمتها دون الالتزامات المالية المترتبة عليهم. واشتراط الدفعة المقدمة للتمويل سيحد أيضاً من خداع سماسرة الرهن العقاري للمقترضين من ذوي الدخول المنخفضة للحصول على قروض لمساكن بقيمة تفوق إمكانيات سدادهم لأقساطها.
ولتفعيل دور التمويل العقاري بالشكل الأمثل؛ يلزم إيجاد نظام فاعل ودقيق للتقييم العقاري للوحدات السكنية المطلوب تمويلها طبقاً لطرائق تقييم قانونية موحدة، وتحديد القيمة السوقية لها، ويجب أن يلزم القانون جهات التمويل العقاري بها.
كما يتعين تشجيع المستثمرين والمطورين في القطاع الإسكاني وتقديم التسهيلات التنظيمية والإجرائية التي تشجعهم على تقديم وحدات سكنية صغيرة ومنخفضة التكلفة ضمن جميع مشاريعهم الإسكانية، فأسعار كثير من الوحدات السكنية المعروضة في السوق لا تزال مرتفعة نسبياً بالنسبة لمستوى متوسط الدخول، وهو ما يجعلها تفوق القدرة الشرائية لنسبة كبيرة من الأسر.
ومع توافر برامج الادِّخار، وتشجيع الأسر على الاشتراك فيها لتتمكن من سداد الدفعة المقدمة، وتوافر برامج التمويل الميسر والمنظم، تحت مظلة نظام تقييم عقاري دقيق لوحدات سكنية صغيرة ومنخفضة التكلفة؛ سيتحول كثير من المستأجرين إلى ملاك؛ بإذن الله.
أستاذ العمارة والإسكان.