التنمية بين التخطيط والتمويل والتنفيذ
مدننا الرئيسة بشكل خاص وأغلب المدن في المملكة تعيش منذ فترة ليست بالطويلة, ثورة تنموية خدمية لإحلال ما فات تنفيذه من بعض المرافق وخدمات في أحيائها السكنية ومعالجة طرقها السريعة من خلال إنشاء الأنفاق والجسور, هذه الثورة الخدمية جاءت مع الوفرة المالية الحالية نتيجة ارتفاع أسعار البترول أو النفط.
إن ما يحصل من حفر وإغلاق لعديد من الطرق الرئيسة والفرعية نتيجة هذه الثورة الخدمية جعل عديدا من سكان المدن يعلنون تضايقهم من ذلك, وبعضهم ذهب أبعد من ذلك بمنع بعض الشركات التي تعمل في أحيائهم من العمل لأنها أغلقت الشوارع وأزعجت السكان بالحفر والهدم والردم, والبعض الآخر طرح ويطرح الأسئلة حول تأخر توفير المرافق والخدمات, خصوصاً خدمة الصرف الصحي بشكل خاص وخدمة المياه بشكل عام والاهتمام المتأخر بإنشاء الأنفاق والجسور بعد إنشاء الطرق واستخدامها من قبل سكان تلك المدن.
الأسئلة كثيرة وطرحت خلال العقود الماضية بين المسؤولين عن إدارة المدن والمخططين أيهما أولى, أن نسمح بالنمو من خلال إعطاء الضوء الأخضر للبناء وإنشاء الطرق ثم تقديم الخدمات والمرافق وفقاً لما يمكن اعتماده من ميزانيات مستقبلية أم نربط تخطيط الأراضي وتقسيمها وبيعها بتوفير المرافق والخدمات, وفي تلك الحقبة, وهي حقبة النمو العمراني مع بداية خطط التنمية الخمسية جاء القرار بأن يسمح للمدن أن تنمو ثم ينظر في أمر توفير المرافق والخدمات وفقاً لما يتم اعتماده من قبل وزارة المالية خلال سنوات الميزانية. هذا القرار مع أهميته وما حققه من نتائج مقبولة تنمويا إلا أنه سمح فيما بعد للأراضي أن تقود التنمية, بمعنى أصبح العقاري هو من يوجه النمو ويحدد اتجاهها وسرعة نموها, وبهذا دخلت الأرض عنصرا تجاريا استثماريا, وفي المقابل تم تحديد شبكات الطرق الرئيسة الناقلة للحركة وصممت على أساس أنها في أطراف المدن أو أحيائها الجديدة, وهذا لا يتطلب أن يتم تنفيذها وفقاً لوظيفتها الأساسية وهي أنها طرق سريعة وشريانية ناقله للحركة وإنما تم الاهتمام بعرض الطرق على أساس تعديلها وفقاً للمتغيرات التي ستطرأ في المستقبل ومتى ما توافرت الميزانيات اللازمة, خصوصاً أننا خلال تلك الحقبة مررنا بظروف مالية صعبة تطلبت تقليص الإنفاق بشكل كبير, تلك الحقبة التي تمثل مرحلة عنق الزجاجة بعد عام 1405هـ الموافق 1985 حتى فترة قريبة.
دعاة التنمية في المقابل كانوا يطالبون بربط البناء بتوفير المرافق والخدمات والحد من النمو لاعتقادهم أن مثل هذا النمو سيجعل من مدننا مدنا عرجاء لا تحقق الاستقرار السكاني في أحيائها نتيجة التغير الذي سيطرأ مع النمو السريع للمدن لأنها ستعتمد بشكل أساسي على تخطيط الأراضي الخام وبيعها مع توفير بعض الخدمات البسيطة التي لا تتعدى السفلتة السطحية للشوارع الداخلية, وربما بعض أعمدة الإنارة كعنصر جذب لتلك المواقع.
الحقيقة أن كلا الفريقين أصاب فيما ذهب إليه, فأصحاب الرأي القائل يجب أن نبدأ بالنمو ثم نحقق التنمية أعطوا الفرصة للمدن أن تنمو وتكون شيئا من معالمها العمرانية, والذين قالوا يجب ربط النمو بالخدمات والمرافق أيضاً كانوا مصيبين فيما ذهبوا إليه لو أنهم قدموا حلا لأصحاب الرأي الأول حول كيفية توفير الأموال اللازمة لتوفير الخدمات والمرافق وإنشاء الجسور والأنفاق وغيرها من متطلبات التنمية دون الاعتماد على الميزانية الحكومية.
الجميع مع الأسف الشديد ربط توفير المرافق والخدمات بما تخصصه وزارة المالية من أموال في ميزانياتها السنوية, وعلى هذا الأساس أصبح هناك إبطاء في توفير المرافق والخدمات وفقاً لنظرة وزارة المالية وما يتوافر لديها من أموال, وفي المقابل لم يكن هناك دور يذكر لهيئة التخطيط ثم وزارة التخطيط, وهي الجهاز المعني بوضع الخطط الخمسية وترجمتها إلى برامج سنوية, وهنا كان الخلل الحقيقي, خطة بلا ميزانية وميزانية بلا خطة, أو كما نقول أصبحت العربة أمام الحصان فبقي الحصان في مكانه.
المطلوب كان خلال تلك المرحلة هو إيجاد مصادر تمويل للخطط التنموية المعتمدة يتم توفير جزء منها من قبل وزارة المالية حسب الإمكان والجزء الآخر يتم توفيره وفقاً لبرامج تمويل مع القطاعات المصرفية أو غيرها من مصادر التمويل المختلفة, هذا المطلوب خلال تلك الفترة يتطلب منا اليوم دراسته والأخذ به, بمعنى أن يتم ربط الميزانية بالخطة وليس الخطة بالميزانية, بحيث لا تتعثر مشاريعنا نتيجة عدم توافر المال أو عدم قناعة المسؤولين في وزارة المالية بالمشاريع, خصوصاً أن عديدا من المشاريع الخدمية لا يفترض فيها وجود جدوى اقتصادية لأنها تعد من الخدمات الأساسية أو ما يسمي البنية التحتية التي تساعد على جذب الاستثمارات وتوطينها وإيجاد فرص العمل من تلك الاستثمارات, علماً أن ما يتم تنفيذه الآن هو لمعالجة وضع الأحياء القائمة, أما الجديدة فستعيش في المستقبل مشكلة الأحياء الحالية.
إن حركة الإنشاء وإعادة التعمير لكثير من مدننا يتطلب منا الاستفادة من تجربة الماضي ومعطيات الحاضر والعمل بشكل منظم ومدروس للمستقبل, بحيث يتم وضع الخطط التنموية وترجمتها كمشاريع سنوية تقدر لها الميزانية المطلوبة ثم يتم تحديد مصادر التمويل لتلك المشاريع سواء عن طريق وزارة المالية أو المصادر الأخرى لأن اعتماد الخطط والمشاريع دون ميزانية سيضعف قدرة المدن على تحقيق التنمية والاستقرار السكاني فيها ويزيد معاناة سكانها من نقص المرافق والخدمات.
كما أن تنفيذ هذه المرافق والخدمات بعد إنشاء الأحياء في تلك المدن سيزيد من تكلفتها بشكل كبير ويضعف الاستفادة من كامل طاقتها الخدمية, كما يجعل الحلول التي تقدم لتوفير تلك الخدمات قاصرة عن الهدف من إنشائها, ولعل ما نشاهده اليوم من إنشاء لبعض الجسور والأنفاق وتمديدات شبكات المياه والصرف الصحي وكثرة الحفر والدفن لتمديد شبكة الهاتف والكهرباء خير دليل على ذلك, علما أن ما يتم تنفيذه الآن هو لمعالجته وضع الأحياء القائمة أما الجديدة فستعيش في المستقبل مشكلة الأحياء الحالية.
وقفة تأمل
" وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب ريح العود
لولا التخوف للعواقب لم يزل
للحاسد النعم على الحسود
خذها مثقفة القوافي ربها
لسوابغ النعماء غير كنود