الرواية إذ تنتقم للآخر
بنزعة تفضيحية يغوص (مفيد النويصر) في طبقات المجتمع الخفية، ليكشف جانباً صادماً من مزاعم الأخلاقوية الزائفة، حيث التسامح المنظَّم في علاقات الشذوذ، الناتج أصلاً عن التردي الاجتماعي، كما يسردها في العلاقة المعقَّدة بين (سامي) المتحدِّر من أصول قبلية، ومقابله الإفريقي (حسام) الذي استنفد عمره من أجل إثبات نسبه لأب سعودي تركه مع أمه وفرَّ هارباً، حيث يتهابط الجميع إلى قاع اجتماعي، ويتفقون على القبول الحر بتسويات متطرفة كما يتبدى ذلك من عنوان روايته الدال (الوَادْ والعَم) المصمم كجامع للنص، وهو عرض اجتماعي شائه، تكرر في جملة من الروايات فيما يشبه التظاهرة الحقوقية، التي تعكس حقيقة التاريخ الاجتماعي، كما تنظمه مختلف السرودات بأمانة وفصاحة داخل عنصر الزمن.
ومن ذات المنزع الإنساني دانت (ليلى الجهني) السياج العنصري المنصوب بصرامة بين الألوان والأجناس والأعراق، خلافاً لمبادئ الدين والتسالم الاجتماعي المرفوعة كلافتات، حيث يحيل عنوان روايتها (جاهلية) إلى مجتمع منزوع الآدمية، وأبعد ما يكون عن حس ومتطلبات المدْينة، لتؤكد على حق بطلها (مالك) المتحدِّر من فئة اجتماعية محرومة حتى من حق المواطنة، في الدخول مع بطلتها (لين) في علاقة عاطفية بعض النظر عن أصولهما العرقية، وتراتبيتهما الاجتماعية، فيما أقر (إبراهيم الخضير) في روايته (عودة إلى الأيام الأولى) بوجود تمييز (مناطقي) مزمن، ضحيته هذه المرة الإنسان الجنوبي الموصوم دائماً بالعبارة التشفيرية الدالة على التحقير "صفر سبعة" حيث التلذذ بتضئيله واختصار ممكناته في مسبّة تبخيسية هي بمثابة القنبلة النفسية الموقوتة التي تهدد السلم الاجتماعي.
وقد أكد (يوسف المحيميد) في روايته (القارورة) على جانب من ذلك التصنيف الإقصائي بعبارة ذات دلالة مركَّبة أطلقها (معيض/بندر) في وجه (فاطمة) بنبرة ازدرائية "ما بقي إلاَّ أتزوج حساوية!!" لتراكم الرواية المزيد من الأدلة على احتقان اجتماعي يعطل فرصة التنادي لتشكيل سحنة اجتماعية موحَّدة تنطوي على مستويات من التنوع والاختلاف، حيث تبدو ملامح ذلك التخثر الاجتماعي مستثمرة، أو مرعيَّة أحياناً من قبل المؤسسة للإبقاء على مبررات التمييز الطبقي والفئوي والمذهبي والمناطقي، سواء من خلال إهدار قيم المواطنة والعدالة، أو بالسكوت على تأخير اللحظة الدستورية، إذ لا تُقر من القوانين ما يحمي الفرد والجماعات المضطهدة، رغم عناوين التكافؤ والعدالة الاجتماعية البرَّاقة.
ونتيجة ذلك التواطؤ، جاء الرد (الاجتماعي/الروائي) فيما يشبه الانتباهة الحقوقية، المتجسّدة كصحوة جماعية يجري توطينها داخل الرواية للتعبير عن قبول (الآخر) بكل تمثلاته وأطيافه، فيما يبدو هذا التكثّر الواضح في طرح موضوع (الآخر) دلالة صريحة على ما يعرف نقدياً بقاعدة (توازي الموضوعات) بما تعنيه من توافر أنماط بنيوية متكررة هي بمثابة الهاجس الضمني من الوجهة الاجتماعية والشعورية والثقافية، المتأتِّية من ظرف تاريخي فيه من الخصائص المشتركة ما يستوجب تلك الهبَّة الشعبية المتلازمة بنيوياً مع أساليب التعبير الروائي، التي تستبطن دعوة لتعريض قاعدة الهرم الاجتماعي، وتنويع مفرداته الحقوقية، للتعويض عن افتقاد التشريعات الكفيلة بتقليل التباينات.
من واقع هذه الكتابة المغايرة، وكثافة الألفاظ المهجوسة بتعيين موضع وظرف (الآخر) وإعادة التموضع إزاءه، يمكن التماس مع ما يسميه دي سوسير (الحس العام) بما هو موقف جمالي تاريخي، يعمل ضمن تشكيلة اجتماعية، ومن خلال لغة، مدلول الفكرة هو قوامها. ومن منطلقاته يمكن تأمل محاولة (رجاء الصانع) إلغاء المسافة النفسية والثقافية مع (الآخر المذهبي) وتلمس شكل ومنسوب الاسترضاء الذي تبديه قبالة طائفة محرومة من حقوقها الطبيعية، وذلك في روايتها (بنات الرياض) كما يبدو من تعاطفها الذي عبرت عنه عند تعاطيها مع خيبة (علي/القطيفي) شقيق (فاطمة) الذي امتنعت (لميس/الجداوية) عن مبادلته الحب لأسباب مذهبية، وكذلك في التودُّد المفرط الذي أبدته بطلة (صبا الحرز) في روايتها (الآخرون) كممثلة لأقلية مضطهَدة قبالة (عمر) كرمز للأكثرية المضطِهدة، حسب مختزنات الوعي الشعبي، بكل ما يحمله هذا الاسم بالتحديد من دلالات الافتراق حد العدائية والتخاصم، وإن حمل ذلك التصفيح بعض علامات الخضوع، أو استسلام (الطرف/القطيف) الذي تم تأنيثه، بوعي أو بدون وعي، لسطوة ذكورية (المركز/الرياض) حيث بدا النص فاقعاً ومؤدلجاً إلى حد كبير، نتيجة إلحاح الكاتبة على الفرار بنفسها وأبطالها من معتقلاتهم المذهبية.
كل تلك الوفرة من الإشارات الدالة على الرغبة في التسالم الاجتماعي، تشير إلى وجود ملامح فضاء ثقافي كفيل باستيلاد مكونات معرفية وجمالية لأوليات المجتمع المدني، نتيجة ما يبديه بعض الروائيين لفكرة (الآخر) والإصرار على إعادة اختراعه، وتوطين ذلك الهاجس في سرودهم، على اعتبار أن كل سرد هو سرد للآخر، وهو بطبيعة الحال شكل من أشكال العلاقة المؤلمة التي تتطلب الكثير من الجهد والوعي والتسامح، خصوصاً حين يكون الاختراق في المكمن الاجتماعي، الذي يختزن في طياته مستويات من التوافق أو التصارع التاريخي، ويعمل على قواعد بمعزل عن إملاءات ومفاعيل السلطة، الذي تقاربه بعض الروايات بحذر ووعي، وإن كانت تصغي لنبضاته أحياناً بتصعيد رومانسي.