فخّ المصطلحات والتلقّي
عند الحديث عن "جمال عبد الناصر "و العهد الذي تولّى فيه رئاسة مصر، فإن أول ما يطرأ إلى ذاكرة المستعيدين له هو "الخُطَب "، فقد اشتهر جمال عبد الناصر – رحمه الله – بخطبه التي كان يوجهها للشعب المصري مباشرة، خاصة أن الخطَب فاعلة مؤثرة كثيرا في الجمهور، وكلّما استطاع ملقيها أن ينتقي الكلمات الرنانة اللاذعة في كتابتها وإلقاءها كان التلقي والتأثر لدى الجمهور بحسبه، وأحياناً تجد أن الخطبة بسبب طريقة إلقائها وكتابتها حوّلت قضية ما من عادية إلى كبيرة، أو العكس، وهذا ما جعل الكثير من "الشعب "المصري يحب جمال عبد الناصر، لأنه كان يخاطبه كثيراً.
إذاً فالملتقي بقدر ما يتلقى من تعظيم وتكبير للقضية، قد تكبر عنده، ويحدث معه العكس كذلك، ومن هذا المدخل أيضاً دخل الحداثيون الذين آمنوا بفكرة أن النص الرمزي هو النص الحديث، فتوغلوا بالرمزية حتى أصبحت نصوصهم غير مفهومة، وبهذا عندما يقرأها القارئ يظن أنها نصوص مشبعة بالرموز التي تخبئ خلفها العديد من الدلالات وأنها نصوص مفتوحة أدبياً وفكرياً للتأويل.
لذلك عند تصفحنا الآن لبعض الكتب الفكرية، نجد أن بعض المفكرين استخدموا في كتابتها المصطلحات غير المتداولة، وتفخيم العبارات، وقد يكرر المعنى ذاته في نفس النص لكن باستخدامه كل مرة أسلوب تعبير مختلفا فقط كي يُظهر أدواته للقارئ وهكذا تكبر لديه القضية، وتدخل في فكرة أكبر مما تحمل، وبهذا يشبه هذا الأمر الخُطب.
أذكر من الكتب التي شعرت أثناء قراءتي لها بأن الأسلوب الذي كٌتبت به أكبر من الأفكار المطروحة والتعمق الذي وصلت إليه مثل كتاب "الحريم الثقافي- بين الثابت والمتحول " لسالمة الموشي، سالمة في الكتاب طرحت فكرة المرأة كمثقفة فاعلة في الوسط الثقافي كيف تعمل، وكيف تفكر، وكيف يُنظر إليها.
ولكن موضوعا كهذا كان يحتمل أسلوبا أقلّ من الذي كتبت به الموشي، والمصطلحات التي استخدمتها في كتاباتها، مقارنة بالعمق القرائي الذي طرحته في الكتاب، طرحها في الكتاب أقرب ما قد أصفه به هو "العموميات" لأنها لم تقم بدراسة على نموذج مثلاً، كأعمال نسائية أو حراك ثقافي في الصحف أو الأندية الأدبية كأقرب نموذج واضح أيضاً بل حتى كان هناك طرح أمثلة بعيد قليلاً عن محاولة "التسمية "من قبلها، لذلك وجدت أن الطرح أقلّ من المصطلحات وطريقتها في الكتابة، حتى أني أستطيع القول إنه كان كتاباً نخبوياً.
وهذا لا يعني أن كتاب الحريم الثقافي لم يكن ذا قيمة كبيرة في طرحه وأفكاره، وأيضاً لا يعني أن كل كاتب استخدم مصطلحات غير متداولة لدى العامة في القراءة الفصيحة أنه يفخم الأسلوب فقط ليلهي القارئ ويجذبه ويؤثر فيه عن الفكرة المكتوبة وأنها أقلّ من الطرح، ولكن أرى أن لكل مجال متلقيه، ولكل تلق أسلوبا وطريقة كتابة يجب على الكاتب أن يراعيها من أجل رسائله.