لبنان والصيرفة الإسلامية (2)
الاقتصاد اللبناني اقتصاد خدمات بالدرجة الأولى، يعتمد في تكوين دخله الوطني على خدمات السياحة والخدمات المصرفية والمالية. وهي خدمات تتطلب استقرارا سياسيا وانضباطا أمنيا. وعندما فقد لبنان عامل الاستقرار طيلة العقود الثلاثة الماضية، تعطل نموه وتوقف تدفق الاستثمارات لقطاعاته الاقتصادية، الأمر الذي ألحق ضررا كبيرا بنموه الاقتصادي. وبعد اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية وعودة الاستقرار السياسي لهذا البلد المنكوب، شهد الاقتصاد اللبناني في عهد الرئيس المغدور رفيق الحريري موجة من التدفقات الاستثمارية والرواج الملحوظ. لكن جاءت حادثة اغتياله البربرية لتعيد الوضع خطوات إلى الوراء، وتقضي مرة أخرى على ما بناه وحققه الرئيس الحريري للبنانيين.
ظلت مشكلة لبنان دائما أنه بلد تنعكس عليه أحداث المنطقة ونزاعاتها السياسية. بيد أنه مع كل ذلك، بلد لديه قدرة على الصمود ومعاودة النهوض متى انتهت الأسباب التي تعطل مسيرة اقتصاده، بفضل ثروته البشرية وعراقة مؤسساته ومرونة أنظمته التي تجعله قادرا على سرعة التكييف. ففي كل مرة يعود الاستقرار إليه تنهض مؤسساته سريعا لتنشيط الاقتصاد من خلال قطاعيه المهمين: قطاع السياحة وقطاع الخدمات المصرفية والمالية. أما قطاع السياحة، فإن للبنانيين باعا طويلا فيه، لسابق خبرتهم. وقد ظلوا باستمرار يعملون على توفير كل مقومات الجذب لصناعة السياحة، بحيث لا تقتصر على فترات أو مناسبات معينة وإنما تكون متواصلة على مدار السنة، خاصة أن صناعة السياحة تطورت في العقود الأخيرة لتشمل، إضافة إلى السياحة الترفيهية، السياحة الطبية، والتعليمية وسياحة تنظيم المعارض التجارية، وعقد الندوات والمؤتمرات المتخصصة والمناسبات الرياضية ونحوها من الأنشطة المشتغلة لطاقات الاقتصاد.
وفي سياق تنشيط سياحة المؤتمرات ومحاولة إعادة دور بيروت كمركز مصرفي ومالي في المنطقة، احتضنت العاصمة اللبنانية أول الشهر الجاري منتدى الصيرفة الإسلامية الذي بحث في كيفية توسع هذه الخدمات في الأسواق المحلية والعالمية. وفي تصوري، أنه لكي تنجح المصارف الإسلامية في توجهاتها التوسعية وزيادة قدراتها التنافسية سواء نحو الأسواق المحلية أو الخارجية، فإنها بحاجة لتوسيع مجالات التعاون فيما بينها، وبحاجة لمواصلة ابتكار وتطوير الأدوات والصيغ المصرفية، التي يجب أن يتوافر فيها شرطان مهمان: الأول أن تكون هذه الأدوات منضبطة بأحكام الشريعة. والشرط الثاني أن تكون هذه الأدوات قابلة للتطبيق المصرفي من الناحية العملية. فقد تكون الصيغة صحيحة وجائزة شرعا، كما في عقد المضاربة المصرفي، لكن طبيعة عمل المصارف القائمة على تشغيل ودائع العملاء، تقتضي تجنب الدخول في عمليات تكتنفها مخاطر عالية مثل المخاطر الأخلاقية Moral Hazard، وهي مخاطر ملازمة، كما معروف، للعمل المصرفي (إيداع وتمويل) القائم على صيغ المشاركات. لكن بفضل الجهود التي بذلناها في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز، أمكننا تخفيض هذه المخاطر عن طريق مجموعة من الإجراءات والاحترازات التي ينبغي على المصارف مراعاتها.
إن ميزة العمل المصرفي الإسلامي أنه ينشد تحقيق العدالة بين المتعاملين من خلال إجازة عقود لا تفضي إلى النزاع فيما بينهم لاحقا. ولذلك فهو، وخلافا لما يظنه كثير من غير المسلمين، نظام لا تقتصر خدماته على المسلمين، بل تمتد لتشمل غير المسلمين. وهذا ما أكده بحق الدكتور بول مرقص الأستاذ في كلية الحقوق في الجامعة الأمريكية ببيروت في مداخلة له في هذا المنتدى. حيث أشار إلى أن المصارف الإسلامية ليست مؤسسات دينية تقتصر خدماتها على المسلمين، بل هي مؤسسات عامة تقدم خدماتها للجميع وفق ضوابط الشريعة الإسلامية القائمة على حظر التعامل بالفائدة، والاستعاضة عن ذلك بمبدأ مشاركة العميل للمصرف في عملياته الاستثمارية. وهذا مبعث طمأنينة للمتعاملين مع هذه المصارف الذين يمكن أن يكونوا مسلمين أو غير مسلمين. وهذا صحيح فإن عملاء المصارف الإسلامية من غير المسلمين في زيادة عاما بعد آخر، وقد لوحظ هذا في ماليزيا وبريطانيا وسواهما من الدول التي انتشرت فيها خدمات المصارف الإسلامية. ويبقى للحديث تتمة أخيرة.