اليهود وروسيا: أصل المأساة الفلسطينية
كما ذكرنا في المقال السابق انقسم التاريخ اليهودي في روسيا إلى مراحل متعاقبة، نمت في أولها جذور عزلة انعزال اليهود بداخل روسيا وعداء السكان المحليين لهم، في ظل وضعهم المتميز كتجار ووسطاء ما بين روسيا وبين دول الشرق ودول الغرب الأوروبي. وتأكد ذلك التميز بعد أن أصبح لليهود مملكتهم الخاصة التي استمرت نحو قرنين من الزمان، فقد اعتنق ملك وحكام مملكة الخزر، المكونة من قبائل تركية وفنلندية رحل والممتدة من منخفض الفولجا في جنوب روسيا، حتى شبه جزيرة القرم الديانة اليهودية، وذلك تحت ضغط دوافع عديدة أبرزها الرغبة في الاستفادة من شبكة الاتصالات اليهودية الدولية، ومن النظام الائتماني العالمي الوحيد في ذلك الوقت الذي كانوا يسطرون عليه. وبعد انهيار مملكة الخزر في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي ظل اليهود يتمتعون بذات الخصائص التي ميزت وجودهم في روسيا، فمن ناحية ظل دورهم في الوساطة والتجارة الخارجية أساسيا، كما أنهم واصلوا من ناحية ثانية الاتجاه نحو التجمع في مناطق مملكة الخزر البائدة، وخاصة في شبه جزيرة القرم الواقعة في جنوب روسيا ما أسهم في تأكيد النزوع إلى عزلة وعزل الجماعات اليهودية وعدم اختلاطها بسكان البلاد الأصليين.
وقد استمر السعي اليهودي نحو تكرار تجربة مملكة الخزر للاستفادة من سلطة حكام الإمارات الروسية المختلفة قائما لفترات طويلة، وهو ما دفعهم إلى القيام بمحاولات عديدة لتهويد بعض من هؤلاء الحكام وتحويلهم عن المذهب المسيحي الأرثوذكسي، الأمر الذي كانت له ردود فعل عنيفة من الكنيسة الروسية وفي أوساط الفلاحين والنبلاء الروس. وإلى جانب ذلك، فإن دور اليهود شبه الاحتكاري ظل مستمرا على صعيد التجارة المحلية في المدن والقرى الروسية، وتفاقم سلوكهم المستغل للفلاحين والنبلاء، سواء عن طريق التحكم في أثمان السلع والمنتجات والمغالاة فيها، أو عن طريق الإقراض الربوي الباهظ الفوائد الذي لم تنج منه أي من الطبقتين. كانت تلك الخصائص المتشكلة عبر القرون الماضية هي القاعدة التي قام عليها فيما بعد ذلك العداء النفسي الشديد لليهود في المجتمع الروسي، والذي تحول بفعل أحداث ووقائع تالية إلى عداء مادي جسدته إجراءات حكومية قمعية ضدهم ومذابح شعبية عديدة لهم، اتخذت فيما بعد اسم "معاداة السامية". وكانت بدايات القرن السادس عشر هي فاتحة ذلك التحول، فقد تفاعل انتشار موجة التهويد للمسيحيين الروس، وبخاصة في أوساط الحكم، مع اتخاذ اليهود الروس موقفا مؤيدا لبولندا في حربها مع إمارة موسكو التي كانوا يسكنون أرضها، لتضاف إلى التراكمات السابقة لكي تخلق موجة من العداء والاضطهاد الشعبي والحكومي للوجود اليهودي في الأراضي الروسية كلها.
إلا أن مجيء القيصر بطرس الأكبر للحكم عام 1682 كان بداية لمرحلة جديدة من تحسن وازدهار أوضاع اليهود الروس، حيث كان هو المؤسس الحقيقي للتوجه الغربي الأوروبي في المجتمع الروسي. وكانت "أوروبة" روسيا هي الهدف الرئيس لذلك التوجه الذي لعب رأس المال اليهودي دورا مهما في تشجيعه ومساندته، ما ترتب عليه تخفيف كثير من القيود التي كانت مفروضة على اليهود في روسيا والاستعانة بكثير منهم كمستشارين ـ وخاصة ماليين ـ في حاشية بطرس الأكبر. وما لبثت أن أدت سيطرة اليهود السياسية والمالية على تقرير سياسة الامبراطورية الروسية إلى عودة الصدام من جديد معهم، وليتخذ القياصرة التاليون الرافضون للتوجه الغربي قرارات عديدة بالتضييق على اليهود، بل ومنعهم من دخول الأراضي الروسية وبقائهم فقط في الأقاليم المحيطة بها.
وبتعاقب عدد آخر من القياصرة تراوحت سياساتهم تجاه اليهود الروس بين منحهم مزيداً من الأدوار المالية والسياسية الرئيسة في روسيا وبين حرمانهم من مجرد الإقامة فيها وعزلهم في مستوطنات خاصة بهم خارجها.
وكان مجيء القيصر الكسندر الثاني إلى الحكم عام 1856 هو حصيلة جميع المراحل السابقة، كما كانت الأحداث الجسام التي شهدها هي المفجر لما سمي فيما بعد بالمسألة اليهودية ونشأة الصهيونية فكرا وحركة. فقد بلغ تسامح ذلك القيصر مع اليهود حداً غير مسبوق حيث ألغى كثيراً من الإجراءات التعسفية التي طالتهم في عهود أسلافه، إلا أن ذلك لم يمنع من مشاركة عدد منهم في اغتياله عام 1881. وترتب على ذلك الاغتيال والعودة إلى الروح القومية الروسية أن اندلعت موجة ضخمة من الانتقام الشعبي والحكومي من اليهود الروس واجتاحت المناطق الروسية موجة من المذابح لليهود وصل ضحاياها إلى عشرات الآلاف. وفي هذا المناخ المضطرب خرجت إلى الوجود أهم ظاهرتين في التاريخ اليهودي الروسي والعالمي، أي الهجرة الكثيفة لليهود من الأراضي الروسية، وظهور الصهيونية كحل مقترح للمشكلة اليهودية. وبدا بذلك واضحاً أن مجمل تاريخ اليهود على مستوى العالم قد قام خلال الفترة الذي زادت على القرن منذ نهاية القرن التاسع عشر على هاتين الظاهرتين اللتين ولدتا في روسيا، وأن ما جرى بعد ذلك ـ ولا يزال ـ من مآس للشعب الفلسطيني تقع جذوره الحقيقية في الأراضي الروسية البعيدة.