Author

الوضع القانوني لأنشطة توظيف الأموال

|
تناولت في مقال سابق بعض جوانب أنشطة توظيف الأموال وأتناول في هذا المقال توضيح الوضع القانوني لها. والحقيقة أن ظاهرة توظيف الأموال التي انتشرت بشكل واضح في بعض المجتمعات العربية والإسلامية وغيرها عقب الحرب العالمية الثانية، تعد أحد المكونات غير المشروعة للاقتصاد الموازي الذي يعرف بأنه مجموعة من الأنشطة الاقتصادية غير المسجلة، سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة، وهي تسير في قنوات بعيدة عن أعين الإدارة الاقتصادية والأجهزة المالية والرقابية للدولة. والحقيقة أن تجربة شركات توظيف الأموال ليست تجربة خاصة بالمجتمع السعودي، بل إن لها نظائر في دول أخرى عربية وإسلامية وغير إسلامية كمصر واليابان وأمريكا وباكستان وغيرها. فقد ظهرت في بعض القرى المصرية منذ القرن الماضي، ثم تطورت مع جماعة الإخوان المسلمين، حيث أسست تلك الجماعة عدداً من الشركات التي أعلنت أنها تلتزم بأحكام وقواعد الشريعة الإسلامية؛ بهدف دعم الاقتصاد القومي وتشجيع الادخار في الطبقات الشعبية، وقد ركزت هذه الشركات في تمويل أنشطتها على رؤوس الأموال الصغيرة المُجمعة من عدد من الطبقات، واتخذت الدولة العديد من الإجراءات ضدها منها إصدار القوانين التي تجرم نشاط تجميع وتوظيف الأموال خارج نطاق القنوات الشرعية والتحقيق مع أصحابها وتصفية شركاتهم وتوزيع أصولها على المودعين، الأمر الذي ترتب عليه انحسار تلك الأنشطة فترة من الزمن ثم بدأت تعود مرة أخرى في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ. وقد ظهرت أنشطة توظيف الأموال في السعودية في بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي المنصرم؛ حيث اتخذت شكل حالات فردية لشركات توظيف الأموال تم الإعلان عنها بوسائل غير مباشرة، مع عائد سنوي يصل إلى 40 في المائة من رأس المال؛ وبدأت تتخذ نشاطها في مجال المضاربة العقارية والذهب والمعادن والحبوب، بل والاشتراك في تأسيس بعض الشركات التي تقوم بالاستثمار في الخارج في أوروبا ومصر وأمريكا وغيرها. وقد اتخذت السلطات السعودية إجراءات عدة لمكافحتها. ومع ذلك فقد عادت في نهاية التسعينيات، حيث ظهرت عدة شركات في كل من الرياض، جدة، مكة المكرمة، الطائف، الباحة، وأبها وغيرها من المناطق بلغ مجموع المساهمين فيها الآلاف، وبلغ حجم أموال المودعين المستثمرة فيها نحو المليارات من الريالات، جمعها ملاك تلك الشركات من المواطنين، بدعوى استثمارها أو توظيفها داخل السعودية وخارجها بنسب عوائد عالية، في مشاريع استثمارية متعددة، حيث كانت الشركات توزع أرباحاً مغرية، الأمر الذي شجع الكثيرين على الدخول فيها، ولكن سرعان ما تبددت أحلامهم بعد سماعهم بانهيار تلك الشركات، ومطاردتها من قبل السلطات الأمنية، والتحقيق مع أصحابها. وقد استخدم موظفو الأموال كافة السبل للحصول على أموال المودعين ومنها علاقاتهم الاجتماعية والوظيفية، مع الاستعانة ببعض الوسطاء وبعض من تظهر عليهم علامات التدين والطيبة. وتتميز أنشطة شركات توظيف الأموال بعدة خصائص جوهرية أهمها: القدرة على توفير مصادر التمويل بسهولة وبدون ضمانات أو بأقل قدر من الضمانات. فأهم ما يميز تلك الشركات، مقارنة بشركات القطاع العام وشركات القطاع الخاص المتخصصة على السواء، هو قدرتها الفائقة على توفير مصادر التمويل؛ أي أنها لا تعاني من مشكلة نقص السيولة، كما أن لديها القدرة على تلبية احتياجاتها من العملات الأجنبية دون اللجوء إلى الاقتراض من البنوك والمؤسسات المالية. وبذلك فإنها تستطيع أن توفر مبالغ مالية كبيرة تستخدمها في مشاريعها كانت ستدفعها مقابل الفائدة لو سلكت طريق الاقتراض من البنوك والمؤسسات المالية، كما أن توافر السيولة بشكل دائم وبحجم كبير لديها يفتح أمامها مجالات جديدة للاستثمارات باستمرار، ويُعطيها القدرة على تنويع تلك الاستثمارات؛ بحيث تتوزع نسبة المخاطرة على عدد كبير من المشروعات، الأمر الذي يُجنبها الخسارة لو ركزت على مجال واحـد للاستثمار. وأهم ما يميز هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية كذلك هو أن أصحاب شركات توظيف الأموال لديهم خبرات طويلة في السوق التجارية، الأمر الذي يُمكنهم من ممارسة العديد من الأنشطة الاقتصادية والمالية في آن واحد، سواء أكانت في أعمال مشروعة قانوناً، مثل ممارسة أساليب متنوعة لأنشطة تجارية ومالية متعددة؛ أم لم تكن كذلك مثل تجارة العملة. فضلاً عن ذلك فإنهم يتمتعون بحرية مطلقة في اتخاذ القرارات والقدرة على المبادرة، ولهذا يكون لديهم ميل واضح إلى اقتحام مجالات استثمارية ذات نسبة عالية من المخاطرة، وهي مجالات تتميز بأنها تدر نسبة كبيرة من الأرباح، ويتراوح الأمر هنا بين المخاطرة المحسوبة، كأسلوب البيع بالتقسيط، والمخاطرة غير المحسوبة التي يصعب الاطمئنان إليها، كالمضاربة على العملات والأسهم والسندات . وتتميز تلك الشركات كذلك بارتفاع معدل العائد الموزع على المساهمين؛ إذ إنها تعطي لأصحاب رؤوس الأموال عوائد مالية مرتفعة مقارنة بشركات القطاع العام والخاص المتخصصة على حد سواء. بل إن مما يميز شركات توظيف الأموال أيضاً أن أصحابها والقائمين على إدارة نشاطها والمتعاملين مع جمهور أصحاب رؤوس الأموال من المدخرين يتمتعون غالباً بالقدرة على اكتساب ثقة واحترام هؤلاء والتأثير فيهم، وذلك في الوقت الذي لم يستطع فيه فشل الجهاز المصرفي اكتساب هذه الثقة. وذلك من خلال اللجوء إلى الحملات الإعلانية والدعائية، الأمر الذي جعل بعض أصحاب رؤوس الأموال يساهم في تلك الشركات فيودع أمواله دون تردد. وفي الواقع أن هذه الخصائص المميزة لأنشطة شركات توظيف الأموال تثير التساؤل عن العوامل التي ساعدت على انتشارها، وهذا ما سأتناوله في مقال لاحق إن شاء الله تعالى.
إنشرها