ملكية التراث مشاعة لكن تشويهه عبث .. مسلسل الهزاني مثل!
يعبّر عن التراث بأنه مجموعة الموروثات التاريخية التي تتشكل من عناصرها حضارة كل أمة، ويشمل ذلك فيما يشمل العلوم والفنون والآداب والآثار المكانية، وجميع المكونات التاريخية للشعوب، ومنها سير الأبطال والشعراء والمحاربين والفنانين التي تترك بصماتها على تاريخ كل عصر، تسترجعها الأمم للتمثل والاعتزاز والاستقراء، نستمد منها ما تصل به ماضيها مع حاضرها، وهي تعد أمانة تنتقل من جيل إلى جيل، ولا يسوغ لجيل ما تشويهها والتعدي عليها بالحذف أو الإضافة، قولا أو فعلا.
وأكثر ما تتعرض له هذه الموروثات من تشويه وتحريف إنما يتم من خلال محاولات استرجاعها في صورة مسلسلات تاريخية يتم عرضها من خلال القنوات التلفازية، ويظهر التشويه جليا إذا كان الدافع للاسترجاع هو العامل التجاري وحده، بحيث يتركز الاهتمام على عناصر مثل الإثارة، والمبالغة في عرض الصور والأحداث وتضخيمها، بل وأبتسارها، لشد المشاهد وإثارته لمتابعتها.
وما دعاني لهذا التقديم هو ما يعرض على بعض القنوات من مسلسلات تحكي بعضا من جوانب التاريخ، وآخرها ما جرى عرضه في إحدى القنوات التجارية خلال شهر أبريل الماضي، وهو مسلسل الشاعر محسن الهزاني، فبقدر ما سبق هذا المسلسل ورافقه من دعاية واسعة، بقدر ما كانت خيبة الأمل ماثلة لدى من قدّر له مشاهدته، ولا سيما ممن يعرفون تاريخ هذا الشاعر عن كثب، وما يتصف به من أصالة وانتماء وطني، خاصة من أفراد أسرته.
وبوجه عام فإن كلا من المؤلف والمخرج، والمؤدّين لأدواره، حاولوا الإمساك بخيوط تاريخ الفترة التي عاش فيها الشاعر، كما أوحي لهم، لكن كثيرا من جوانب العمل ومشاهده لم توفق في بلوغ الحد الأدنى من إبراز الصورة الحقيقية لما كان عليه الوضع في تلك الفترة، فلا المكان الذي نشأ فيه الشاعر، بما يضمه من عناصر بيئية مختلفة، هو المكان نفسه، حيث بدا شكل المنازل في المسلسل وكأنها مجموعة أحواش متناثرة يغلب عليها البدائية والبداوة، لا يمت مظهرها ولا مخبرها بصلة إلى طبيعة المنازل في بلد الشاعر وشكلها ومكوناتها التي كان يغلب عليها تعدد الأدوار، واستعمال الرواشف، كما صور ذلك الشاعر حين وصف روشن محبوبته وشكله واتجاهاته في قصيدته الشهيرة، كما أن البيوت كانت متقاربة ومنتظمة في صفوف على جوانب الطرقات "السكك" ذات شبابيك صغيرة عالية وليس كما صوّر في المسلسل، يكشف منها الماشي في الطريق ما بداخل البيت. أما المزارع فكان يرمز إليها بالنخل "وليس كما ورد في المسلسل"، ولم يظهر من مشاهدها ما يعبر عن حقيقتها، رغم أن الحريق كانت مشهورة بالغابات وكثافة النخيل، بدليل أن تسميتها جاءت نتيجة إحراق جزء من تلك الغابات لبناء القصور مكانها.
أما الإساءة الأكبر لتاريخ الشاعر ومجتمعه فقد جاءت من المبالغة في المشاهد التي ظهر فيها العنصر النسائي، والمتمثلة في التسابق على ملاحقة الشاعر وترصده في كل مكان يحتمل ظهوره فيه، ومحاولة كل واحدة منهن الظفر به، مع تساهل في الحشمة والاحتجاب، ومبالغة في تصوير المشاهد، وهو أمر يتناقض مع واقع الحال، حيث لم يكن الوضع الديني، المتمثل في حياة الشاعر ذاته وأسرته ولا الوضع الاجتماعي، الذي يتشكل في غالبيته من أسر معروفة، يسمحان بممارسات كتلك التي أظهرت النساء بما لم يكن فيهن. وإذا كانت حجة واضع القصة هي ما ورد على لسان الشاعر في شعره، فإن هذه الحجة تسقط أمام حقيقة "أن الشعراء يقولون ما لا يفعلون"، وهم يوردون في أشعارهم،
من المواقف والمبالغات ما لا يمكن لعاقل فعله, ناهيك عن المسلم, وهي أمور ترتبط بالخيال والتمني أكثر مما ترتبط بالواقع, إذ إنه عندما يقول الشاعر ذاته, مثلا في قصيدته المعروفة "روشن هيا":
مبسم هيا له في الظلام اشتعالا
بين البروق وبين مبسم هيا فرق
إنه لا يعني أن مبسم محبوبته "يضيء" في الظلام أكثر من البرق, وإنما يتصور أو يتخيل ذلك ضمن ضروب الخيال عندما يجنح بالشاعر. بيد أن الأمر المؤسف هو "تجنيح" خيال مخرج المسلسل إلى ربط ما ورد من تخيلات ومبالغات بالواقع, وكأنه أمر حاصل, الأمر الذي أوقعه هو في مغبة التجني على هذا الواقع.
وأما من حيث الأداء, فقد بدا الضعف واضحا على بعض الممثلين بمن فيهم مؤدي دور الشاعر محسن ذاته, وبرز ذلك جليا في ملكة حفظ الشعر وطريقة إلقائه, وفي البرود الذي طغى على مشاهد الدور, حتى أن بعض الشخصيات كـ "الرعوجي مثلا" طغت في الظهور والحضور على شخصية الشاعر ولم يكن ذلك بمستغرب, طالما أسند هذا الدور لممثل لا يملك إرثا تاريخيا يتكئ عليه في عالم التمثيل. والمسألة ليست مسألة وسامة شكل بقدر ما هي مسألة حضور في الشخصية, وعمق في الثقافة وقدرة على تقمص المشاهد والتفاعل معها. وقد يكون للعامل المادي دور في التضحية بدور شخصية هي أهم ما في المسلسل.
وعموما فقد بدا واضحا أن الهدف من المسلسل ليس إبراز التاريخ وإعادة تصويره والاستفادة من استرجاعه بقدر ما هي استخدام هذا الاسم الكبير لشاعر "الحب والحرب" لانتزاع الإثارة والتوثب لدى كل من المشاهد والمعلن لتحقيق أكبر مشاهدة تجلب معها أكبر حصيلة للإعلان, وقد تجلى ذلك في إطالة المقدمات والفواصل ومواد الحشو وإعادة الجزء الأخيرة من كل حلقة في مقدمة الحلقة التي تليها.
ما أود طر حه في النهاية هو: هل التراث بكل ما فيه, متروك لمن يريد أن يعبث به كيف يشاء؟ أم أنه لا بد أن يكون هناك نوع من الرقابة الثقافية الشعبية "في ظل غياب رقابة رسمية" على كل ما يتم تصويره من ذلك التراث, وتحديد مدى التصاقه بما يريد التعبير عنه, ومدى التزام معديه ومؤديه بالحد الأدنى من المصداقية وأخلاقيات العمل المهني؟ والله من وراء القصد.