نظرات في مشكلة كثرة القضايا ونقص القضاة

في مقال سابق بعنوان "بطء التقاضي أمام الهيئة العليا لتسوية الخلافات العمالية"، منشور في جريدة "الاقتصادية" بتاريخ 23/2/1429هـ الموافق 1/3/2008 أشرنا إلى أهم الأسباب العامة لظاهرة بطء التقاضي، ومنها النقص في عدد القضاة مقارنة بالكم المتزايد من القضايا المطالبين بالفصل فيها.
وازدادت هذه الحقيقة تأكيدا بتصريحين، نشرتهما جريدة "الحياة"، الأول بتاريخ 14/4/1429هـ الموافق 20/4/2008، حيث قال رئيس الهيئة الابتدائية لتسوية الخلافات العمالية في محافظة جدة إن مكتب العمل في جدة استقبل 1200 قضية عمالية خلال الربع الأول من عام 1429هـ، مضيفا أن هذه القضايا كانت متنوعة مثل الفصل التعسفي والتأخير في صرف رواتب العمال وتشغيلهم في وظائف غير التي اتفق عليها في عقد العمل.
والتصريح الثاني بتاريخ 26/4/1429هـ الموافق 2/5/2008، حيث قال الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن العثيم رئيس المحكمة الجزائية في محافظة جدة، إن عدد القضاة في السعودية لا يتجاوز 800 قاض، وهو رقم يبدو قليلا جدا قياسا بعدد سكان السعودية أو عدد القضايا المنظورة. وأشار فضيلته إلى أن المحكمة الجزائية في جدة تستقبل وحدها 2500 قضية حقوقية شهريا، إضافة إلى آلاف من القضايا الجنائية، وأن عدد القضاة الذين ينظرون فيها يبلغ 16 قاضيا، الأمر الذي يثقل كاهل المحكمة ويربك العمل.
لا جرم أن تكون العدالة بطيئة لأن عدد القضاة لا يتناسب البتة مع كثرة عدد القضايا والمنازعات، ولا شك أن بطء التقاضي وتأخير الفصل في المنازعات يترتب عليه أضرار كبيرة. وهو أمر تأباه شريعتنا الإسلامية السمحة.
إن زيادة عدد القضاة أمر لازم وضروري لتحقيق العدالة السريعة الناجزة، وهذه العدالة لا تتحقق إلا عن طريق الفصل في القضايا في وقت معقول مع جودة الأحكام. أي إنجاز الكم والكيف معا. ولا ريب أن زيادة عدد القضاة هي مسؤولية الدولة التي يجب عليها أن توجد الوظائف القضائية بالقدر المناسب لعدد سكان المملكة وتزايد القضايا وتوفير الموارد المالية لها.
وجدير بالذكر هنا أنه على أثر صدور نظام القضاء ونظام ديوان المظالم الجديدين بموجب المرسوم الملكي رقم م/87 وتاريخ 19/9/1428هـ صدر بيان من الديوان الملكي جاء فيه ما يلي:
(انطلاقا من حرص خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز – حفظه الله ورعاه – على الارتقاء بمرفق القضاء وتطويره بشكل شامل ومتكامل يتزامن مع ما تشهده المملكة ولله الحمد من تطور وتحديث في مناحي الحياة كافة، فقد صدر المرسوم الملكي رقم م/87 وتاريخ 19/9/1428هـ القاضي بالموافقة على نظامي القضاء وديوان المظالم وآليتهما التنفيذية. ولتحقيق كل ما يتطلبه ذلك من تهيئة الكوادر وتوفير الوظائف والتجهيزات ومباني المحاكم والمتطلبات اللازمة لتحقيق الأهداف والغايات من إصدار هذين النظامين اللذين يؤمل بمشيئة الله منهما أن يسهما في إحداث نقلة نوعية واعدة في أداء مرفق القضاء للمهام والمسؤوليات المنوطة به، فقد أصدر، حفظه الله، أمره الكريم بالموافقة على محضر لجنة الأنظمة الأساسية بالديوان الملكي رقم 4/28 وتاريخ 6/2/1428هـ، التي رأت فيه أن تتم هذه النقلة التطويرية الشاملة في إطار مشروع متكامل يطلق عليه اسم "مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء"، وقد خصص، حفظه الله ورعاه، ميزانية خاصة لهذا المشروع تبلغ سبعة آلاف مليون ريال.
إذن الدولة بقيادة ولي الأمر الملك عبد الله بن عبد العزيز لم تكتف بتطوير الأنظمة القضائية، بل وضعت أيضا إمكانات مالية كبيرة لتطوير مرفق القضاء من شتى جوانبه المختلفة. والمسؤولية الآن تقع على وزارة العدل وديوان المظالم في الاستفادة من هذه الإمكانات لإزالة أسباب ظاهرة البطء في التقاضي وتأخير الفصل في القضايا، ومنها النقص البالغ في عدد القضاة. ولا بد لمواجهة هذا النقص من إعداد خطتين، الأولى قصيرة المدى، والأخرى طويلة المدى، يتم في ضوئهما تحديد الأعداد المطلوبة في كل مرحلة لحاجة المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها، مع الأخذ في الاعتبار عند وضع هاتين الخطتين أن عدد القضايا المطروحة على المحاكم في تزايد مستمر. ولعل مما يساعد على زيادة عدد القضاة إعادة النظر في مستوى رواتب الوظائف القضائية وزيادتها إلى المستوى الذي يتكافأ مع أعباء القضاة المتزايدة وجهودهم، ويجذب بالتالي خريجي كليات الشريعة إلى الانخراط في العمل القضائي، ومما يساعد على زيادة عدد القضاة، وخصوصا خلال المدى القصير ألا يقتصر تعيين القضاة على خريجي كليات الشريعة في المملكة، وإنما يتعين فتح المجال كل عام أمام عدد محدد من خريجي كليات الحقوق والقانون للتعيين في الوظائف القضائية وفقا لضوابط ومعايير عامة ومجردة، وهو أمر تجيزه في تقديري المادة (31) من نظام القضاء الجديد التي حددت شروط تعيين القضاة ومنها الشرط المنصوص عليه في الفقرة (د) من هذه المادة، حيث اشترطت في القاضي "أن يكون حاصلا على شهادة إحدى كليات الشريعة في المملكة أو شهادة أخرى معادلة لها، بشرط أن ينجح في الحالة الأخيرة في امتحان خاص يعده المجلس الأعلى للقضاء".
ومؤدى هذا النص أن بالإمكان أن يتبوأ منصب القاضي من يحمل شهادة في القانون من جامعة معترف بها إذا توافرت لديه شروط التعيين الأخرى. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن مناهج كليات الحقوق في الجامعات العربية تتضمن تدريس الشريعة الإسلامية في مواد موزعة على سنوات الدراسة، إذ يدرس الطالب تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره ونظرياته وقواعده العامة وأحكام الأسرة المتعلقة بالزواج والطلاق والنفقة وأحكام المواريث والوصية والوقف وأصول الفقه الإسلامي.
ولمواجهة احتياجات المحاكم المتخصصة المزمع إنشاؤها مثل المحاكم التجارية والمحاكم العمالية ومحاكم الأحوال الشخصية، فإنه يتعين في المدى القصير وضع برامج تدريبية لتخصص القضاة وابتعاث عدد منهم إلى الخارج بغرض تطوير وتحديث معارفهم العلمية ومهاراتهم القضائية عن طريق الاستفادة من تجارب المنظومات القضائية الحديثة. كما ينبغي توفير مكتبة في كل محكمة تحتوي على الكتب والمراجع الفقهية والقانونية والاجتهادات القضائية لتكون في متناول القضاة للاستعانة بها أثناء دراستهم للقضايا المحالة إليهم. أما بالنسبة للمدى الطويل، فقد أصبح من الضروري تطوير منهاج الدراسة في كليات الشريعة، بحيث تشمل تدريس الأنظمة والقوانين المعمول بها مثل أنظمة المرافعات والإجراءات الجزائية والتحكيم والأنظمة التجارية مثل "نظام الشركات ونظام الأوراق التجارية ونظام السوق المالية" وقانون التجارة الدولية والقانون الإداري والقانون البحري والقانون الجوي والقانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص، وغير ذلك من الأنظمة والقوانين، ويستوجب ذلك أن تندمج في كليات الشريعة جميع أقسام الأنظمة والقانون الموجودة حاليا في الجامعات السعودية ليكون المرشحون في المستقبل للعمل القضائي قد درسوا أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية.
ونشير قبل الختام إلى أن زيادة عدد القضاة لا تكفي وحدها في تحقيق العدالة السريعة الناجزة، بل لا بد أن يكون ذلك مقرونا بتبسيط إجراءات التقاضي على النحو الذي يؤدي إلى تقليل عدد الجلسات قدر الإمكان، مثل الأخذ بأسلوب تبادل عدد معين من المذكرات بين الخصوم بعد الجلسة الأولى ثم تعقد جلسة للمرافعة الشفوية وجلسة ختامية ما لم يقرر القاضي أن طبيعة القضية تستوجب عقد جلسات أخرى قبل الجلسة الختامية.
ومن ناحية أخرى، فإنه للحد من شغل المحاكم بالدعاوي الكيدية والباطلة يتعين فرض غرامات رادعة محدد قيمتها نظاما على كل من يرفع دعوى لا أساس لها مثل المطالبة بدين سبق سداده أو بحق تم حسم النزاع بشأنه باتفاق صلح صحيح شرعا أو كانت الدعوى تجديدا لموضوع دعوى سابقة تم الفصل فيها بحكم نهائي أو غير ذلك من التصرفات التي تنم عن التعسف في استخدام حق التقاضي من أجل الكيد وإيذاء الخصم. كذلك فرض غرامات رادعة على كل مَن يعرقل سير الدعاوي بهدف تأخير الفصل فيها مثل الادعاء كذبا بأن المستندات المقدمة من الخصم مزورة.
وأحسب أن هذه الإجراءات من شأنها أن تساعد على معالجة مشكلة كثرة القضايا وقلة القضاة، وبالتالي سرعة الفصل في القضايا في وقت معقول دون الإخلال بجودة العمل القضائي، ذلك أن العدالة الحقيقية لا تتحقق من خلال سرعة الفصل في الدعاوى فحسب، بل لا بد أن يكون ذلك مقرونا بصحة الأحكام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي