الحركات الجهادية والقضايا الاقتصادية

drashwan59@yahoo .com

1- الحركات الجهادية المحلية

توضح مؤشرات كثيرة أن اهتمام الجماعات الإسلامية الجهادية بمختلف أنواعها بالقضايا الاقتصادية يتسم بخصائص نوعية تميزها عن بقية الحركات الإسلامية الأخرى وبخاصة تلك التي يكمن تسميتها بالسياسية - الاجتماعية ذات التوجهات المعتدلة والسلمية. وقد سبق لنا في هذه المساحة أن تناولنا بصورة مفصلة وعبر مقالات ثلاث رؤية الجماعة الجهادية الدولية الأكبر، أو تنظيم القاعدة، للقضايا الاقتصادية وكيفية تعاملها معها في سياق تحركها العملي.
ولكي تكتمل صورة تعامل الجماعات الجهادية مع القضايا الاقتصادية سنركز اليوم على النوعين الآخرين من الجماعات الجهادية، أي الجماعات المحلية والجماعات الانفصالية. وبصفة عامة مثلها مثل الجماعات الجهادية الدولية، فإن هذه الجماعات المحلية والانفصالية ونتيجة لطبيعتها الدينية المتشددة، تركز اهتمامها على قضايا العقيدة بينما يتراجع في أساسها الفكري الاهتمام بالقضايا ذات الطابع الاقتصادي ضمن تراجع عام لقضايا المعاملات لصالح الاهتمام والتركيز على قضايا العقائد والإيمان. من هنا تغيب عن أدبيات تلك الحركات الأحكام والنماذج المثالية لمختلف المعاملات بين الناس التي لا تتماس بصورة أو بأخرى مع العقيدة وأصولها بما في ذلك المعاملات الاقتصادية، سواء الفردية أو الجماعية. وبالرغم من ذلك الغياب، فإن الحركات الجهادية عموماً تعطي اهتماماً واضحاً في تحركها العملي لبعض القضايا الاقتصادية ليس من أجلها في ذاتها، بل بما يمكن استخدامه منها لتحقيق الأهداف المحورية المرتبطة بالعقيدة الإسلامية كما تتصورها تلك الحركات.
تنطلق الحركات الجهادية المحلية، التي لا توجد سوى في بلدان العالم الإسلامي، من فكرة أن "العدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد"، وهو بالنسبة لها حكومات الدول التي تنتمي إليها، التي يعد إسقاطها عبر قتالها هو المهمة الأولى التي يجب عليها البدء بها. وتتحدد الاهتمامات الاقتصادية لتلك النوعية من الحركات الجهادية كما تبرزها خبرة الأعوام السابقة لتأخذ أحد شكلين. الشكل الأول، هو اعتبار أن الجوانب الاقتصادية والمالية أسباب ضرورية يجب الأخذ بها لتنفيذ تلك الأولوية، ومن ثم سعت هذه الحركات إلى توفير التمويل الكافي للقيام بأنشطتها القتالية واستقرار صفوفها التنظيمية ورعاية أسر قتلاها ومعتقليها. وقد بدا واضحاً في الهياكل التنظيمية لتلك الحركات منذ ظهورها في منتصف السبعينيات في عديد من الدول الإسلامية والعربية تضمنها لجاناً خاصة مسؤوليتها هي القيام بتلك المهام الاقتصادية، وتوفير الموارد اللازمة لها. كما تشير متابعة عديد من تلك الحركات خلال تلك الفترة إلى أنها لم تتمتع قط بوفرة في مواردها المالية والاقتصادية تتناسب مع أهدافها والأطراف التي تدخل ضدها مواجهات صفرية، وقد مثل افتقارها إلى تلك الموارد أحد العوامل المهمة في فشل عديد منها في تحقيق أهدافها، بل وتخلي بعض منها عن خيار العنف والفكر الجهادي بصورة كلية. ولم يكن ذلك الافتقار فقط قياساً إلى المهام الكبرى التي طرحتها تلك الحركات على نفسها، بل وأيضاً قياساً إلى الأعباء التي باتت تتزايد عليها نتيجة المواجهات الدموية التي خاضتها مع الدول والأنظمة التي كلفتها أعداداً كبيرة من القتلى والمعتقلين.
وأما عن المصادر الرئيسة لتمويل تلك الحركات الجهادية محلية الطابع خلال سنوات نشاطها فقد توزعت بين اتجاهات مختلفة. فهناك أولاً مساهمات أعضائها بنسب كبيرة من دخولهم الشخصية عبر انخراطهم في مختلف الأنشطة الاقتصادية العامة والخاصة، وهي مساهمات كانت قيمتها وأهميتها تزداد مع سفر عدد منهم إلى بلدان نفطية للعمل بها، ما كان يتيح لهم دخولاً أكبر مما يمكن أن يحصلوا عليه في بلدانهم الأصلية. كذلك فقد استطاعت بعض تلك الحركات الحصول على تمويل خارجي أتى إليها من دول أو أجهزة أمنية أخرى بعضها يعتنق التوجهات الإسلامية، وبعضها الآخر يسعى لاستخدامها في تصفية حسابات له عبرها مع الدول التي توجد بها وتخوض "جهادها" ضدها. وغير بعيد عن ذلك السياق الخارجي، فقد حصلت بعض تلك الجماعات على مصادر تمويل من جماعات أخرى مماثلة لها من خارج بلدانها أو من بعض الأفراد الأغنياء الذين يحملون أفكاراً "جهادية" غير بعيدة عن أفكارها. ولم يكن السعي إلى الحصول على جزء من الصدقات وأموال الزكاة والتبرعات التي يدفعها عامة الناس في البلدان المسلمة بعيداً عن ذهن تلك النوعية من الحركات، إلا أن يقظة الحكومات التي يواجهونها ورقابتها على تلك التدفقات المالية لم تنجحا ذلك السعي في معظم الأحوال. وأخيراً، فقد لجأ قطاع صغير من تلك الحركات، بعد تشديد الحصار والرقابة الأمنية والحكومية على مختلف الأشكال السابقة للتمويل، إلى القيام بسرقات مسلحة لبعض المتاجر والمصارف الصغيرة للحصول منها على مبالغ زهيدة نسبياً، كما كان الحال في مصر خلال النصف الأول من التسعينيات على يد الجماعة الإسلامية وبخاصة في مناطق الجنوب.
أما عن الشكل الثاني للاهتمامات الاقتصادية لتلك النوعية من الحركات الجهادية، وهو اعتبار المصالح الاقتصادية في حد ذاتها أهدافاً يمتلكها "العدو" الداخلي، يمكن بل ويجب توجيه ضربات لها تؤدي إلى إفقاده بعض مقومات وأركان القوة التي يملكها، فقد بدا واضحاً للعيان في ممارسات العديد منها خلال النصف الأول من التسعينيات في عديد من مناطق العالم الإسلامي. فقد كانت هجمات الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر منذ عام 1992 على عديد من المنشآت الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدمية تعكس بصورة جلية ذلك الاستهداف للمصالح الاقتصادية للدولة الجزائرية من أجل ضرب قواعدها وأركان قوتها والتعجيل بانهيارها حسب رؤية تلك الجماعات. ولم يكن الوضع مختلفاً في مصر على يد الجماعة الإسلامية التي أدركت مدى أهمية السياحة بالنسبة للاقتصاد المصري فسعت إلى استثمار تركز عضويتها وأنشطتها في جنوب البلاد، حيث تذهب أغلبية السائحين الأجانب، في ضرب الدولة المصرية من هذا السبيل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي