العمل لأجل الخبر!

[email protected]

كانت البساطة تغمر آباءنا في كل عمل يقومون به، لم تهمُّهم المظاهر ولا ما يُقال عنهم، جُل اهتماماتهم يتركز على أعمالهم وإنجازاتهم، لم يكن صالح يساعد من حوله لأجل أن تقول الناس إنه رجل صالح بمعنى الكلمة، ولم يكن سليمان يبني مشروعه ليكثر الحديث حول نجاحاته التجارية، ولم يكن علي كريماً لأجل أن يوصف بذلك، ولم تكن هنالك ثورة إعلامية ولا تقنية، كل ما كان هناك "ثروة إنسانية"، وجاء هذا الجيل الجديد الذي لاحظ أن آباءه وأجداده قدمواً أعمالاً عظيمة، وسخَّروا أنفسهم لخدمة وطنهم ومجتمعهم، ولكن غالبية المجتمع لا يعلمون عن إنجازاتهم شيئاً، فأصبح شعارهم "تعلمنا من أخطاء أسلافنا، فلننشر أفكارنا وإنجازاتنا وكل ما نقدمه لأننا نستحق التكريم والاحترام".
فما الذي حصل ؟ عندما زارني صديقي خالد من الدمام وأطلعني على المجلة السنوية الخاصة بأسرته والتي توزع مجاناً على أبناء أسرته في حفلها السنوي وإذا بي أكتشف الحلقة المفقودة بين الجيل المؤسس والجيل الجديد وذلك من خلال إعلانين مختلفين داخل المجلة لشركات يملكها أحد أفراد أسرة صديقي خالد، حيث كان الإعلان الأول رديئاً جداً من ناحية الشكل والعبارات وحتى شعار الشركة وكأنها شركة مفلسة على الرغم من أنها شركة كبرى قدمت العديد من المشاريع العملاقة في القطاع الصناعي، ولكن ذلك لم يكن واضحاً في الإعلان وإنما أفادني به خالد، والإعلان الثاني كان في غاية الجمال والعبارات الرنانة واسم الشركة الأروع، ولكن عند سؤالي عن تلك الشركة وجدت أنها لم تقدم أي عمل يستحق الذكر وإنما مجرد مظهر وهالة إعلانية وإعلامية جوفاء!
علم القيادة يقول "قلل من الوعود، أكثر من الإنجاز" والحقيقة أنني في بداية كتابتي لهذا المقال كنت أفكر أن أجعل عنوانه "يازين ديرتنا بجرايدنا " والذي يعبر عن الواقع في صحفنا كل يوم، فكل من يتصفحها كل صباح يقول يا ألله كم هي جميلةٌ بلادنا، وكم هي تسير على الطريق الصحيح نحو التنمية الحقيقية أو المتسدامة، بل إن الكثير من الأخبار والتصريحات تجعلك على يقين أننا وصلنا إلى قمة التميز والتقدم في عالم الحضارة، فهذا المصنع العملاق الذي سيصدِّر البتروكيماويات ويجعلنا نحس أننا بدأنا نستفيد من ثروة النفط، ومشاريع الثروة الحيوانية والسمكية التي توحي لنا بأن هناك بعضا من الأمن الغذائي، ومشاريع الكليات التقنية والمعاهد الفنية ومراكز التدريب التي رصدت لها المليارات وكأنها تحدثنا بأنه سيكون لدينا كفاءات وموارد بشرية وسواعد وطنية تسهم في صرح الحضارة المنشود "وطني"، وحينما نقلب الصفحات في صباحٍ آخر نشاهد صور المسؤول الكبير الذي يتفقد أحوال المواطنين، ويطمئن على صحة المرضى في المستشفيات التي تحولت إلى فنادق خمس نجوم وامتلأت بالورود جراء زيارة المسؤول الكبير!، والمسؤول الآخر الذي يسلم مفاتيح مساكن جديدة للفقراء الذين يعيشون في الصفيح، والمدن الاقتصادية، والصناعية، والمركز المالي، كلها تقول إننا اقتربنا للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة، أو ربما وصلنا، ولكن هل نحن نسير إلى هدف معين؟ وهل لهذا الهدف خطة محددة؟ وهل الهدف مبني على دراسات لإمكانيات الوطن؟ بناءً على حاجات وطموحات أهل هذا الوطن الغالي؟ ولماذا هُم آخر من يعلم؟ أم أن من يصرِّحون لا يعلمون أيضاً؟!
إن المراقب لإعلامنا يتضح لديه أن هناك بوادر عن تفشي "وباء" يحاول الانتشار في بلادنا، يقلب الموازين رأساً على عقب، حوَّل الوسائل إلى غايات والعكس كذلك، فالعمل الخيري أو الوطني الذي كان غايته في الأساس هو خدمة المحتاجين والمواطنين أصبح لدى البعض وسيلةً إلى وجاهة أو مدخلاً إلى تجارة، إلى أن صار بعض من منسوبي القطاع الحكومي، والقطاع الخاص، ومؤسسات المجتمع المدني، يفكرون في صورهم في الصحف قبل أن يفكِّروا في العمل نفسه! وبعضهم يعمل قبل أن يفكر لماذا يعمل؟ وماذا يريد؟ ومن يستهدف؟ وكيف؟ ومتى؟ ولماذا، وما الأولويات؟
وأنا لا أقول أن نعمل في صمت كالآباء الأفاضل، ولا أن نكون كتلك الشركة جميلة المظهر، فاشلة المخبر، والتي لم تقدم أية أعمالٍ تستحق الذكر ومع هذا تُذكر، بل كل ما أرجوه هو "الموازنة بين العمل والخبر" وأن تكون النتائج الإيجابية للأعمال هي الهدف، والعمل لتحقيقها هو الوسيلة، والخبر هو لكي يتعلم الآخرون منها، ولكي يُشكر من يعمل بجدٍ وتفانٍ ويخدم نفسه ووطنه وأمته وليُكرَّم أيضاً كما كُرِّم "محمد عبد اللطيف جميل" فهو يستحق التكريم، لكننا لا نريد ممن يحاول السير على هذه الخطى أن يكون هدفه التكريم فقط.
وحتى في مجال الرياضة، فيتحدثون اليوم عن تكريم "ماجد عبد الله" وهو يستحق التكريم أيضاً فهو أفضل لاعب في تاريخ الرياضة السعودية، ولكن ماجد نفسه لم يكن يسجِّل أهدافه مع منتخبنا الوطني لكي يُكرَّم بل كان هدفه فوز فريق بلاده، ولم يكن يبدع في مباريات "النصر" إلا لكي يفوز ناديه أيضاً، وليس لكي تُنشر صوره في الصحف، ومن المعلوم لدى الجميع أن باب الشهرة مفتوحٌ على مصراعيه حتى لمن يقومون بالأعمال الشاذة أو المخالفة للعرف والعادات، ولكن الفارق كبير في مستوى الشهرة واحترام الناس لهذا المشهور.
لذلك فأتمنى أن نعمل جميعاً للقضاء على هوس الشهرة والعمل لأجلها فقط، وليكن هدفنا القضاء على هذا الوباء، لا أن "نعمل لأجل الخبر" أيضاً!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي