أسعار النفط القياسية .. توضيح
مع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية كثر الحديث عن أسباب هذا الارتفاع الكبير والسريع في الأسعار. وبالنظر إلى ما يذكر حول الموضوع يمكن بسهولة استنتاج حقيقة مهمة وهي أنه تم "تسييس"هذه العوامل بما يخدم مصلحة كل طرف. ونظرا لاختلاف الآراء وتسييسها لا بد من توضيح بعض الأمور للقراء:
1- ارتفاع الأسعار لمستويات 100 دولار للبرميل وما فوقها بالشكل الذي حصل لم يكن متوقعاً على الإطلاق كتوقع منفرد. فالذين توقعوا صعود الأسعار إلى ما فوق 100 دولار للبرميل جعلوا هذا التوقع أحد السيناريوهات وليس السيناريو الوحيد.
2- الذين توقعوا أن يكون أحد السيناريوهات هو تجاوز أسعار النفط 100 دولار للبرميل ذكروا أسباباً عدة لم يتحقق أغلبها. هذا يعني أن ارتفاع الأسعار كان مفاجئا لهم أيضاً، الأمر الذي يجعل توقعاتهم مثل من توقع وصولها إلى 60 دولارا للبرميل. بعبارة أخرى، ليس المهم التوقع، ولكن كيفية الوصول إليه، وهو الأمر الذي ركز عليه الأخ الزميل سعود الأحمد في أكثر من مقال له في "الشرق الأوسط". وكل من توقعوا تجاوز أسعار النفط 100 دولار للبرميل أخطأوا في طريقة وصول الأسعار إلى هذا المستوى.
الوضع الحالي يختلف عن الماضي
يختلف الوضع الحالي عن الماضي ولا يمكن لأحد أن يدعي أن لديه خبرة بما يحدث هذه الأيام في أسواق النفط. فتجربة السبعينيات لا يمكن الاعتماد عليها لأنها تختلف كلياً عما يحصل الآن. ويمكن تلخيص الفروقات بين فترة ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات وفترة الارتفاع الحالية فيما يلي:
1- مع ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات ارتفعت أسعار الفائدة، على عكس الفترة الحالية التي تنخفض فيها أسعار الفائدة.
2- مع ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات، انخفض الإنفاق الحكومي في الدول المستهلكة، وهذا على عكس ما حصل في الفترات الأخيرة, حيث إن الإنفاق الحكومي استمر في الزيادة.
3- رغم انخفاض الدولار في السبعينيات مع ارتفاع أسعار النفط، إلا أنه لم توجد عملة منافسة له. اليوم نجد أن اليورو، الذي بدأ التعامل به في عام 1999 ينافس الدولار، والدولار ينخفض أمام اليورو باستمرار.
4- انخفضت صادرات كثير من الدول مع ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات، على عكس ما نراه الآن، خاصة صادرات الصين والهند والولايات المتحدة.
5- لم توجد أسواق مستقبلية في النفط في السبعينيات، بينما أصبحت نشطة في السنوات الأخيرة، وأصبح النفط أداة استثمارية.
6- ولعل أهم فرق هو أن أسعار النفط ومشتقاته في الأسواق الأمريكية كانت محددة من قبل الحكومة الأمريكية في السبعينيات، بينما لا يوجد هذا النظام حاليا حيث تتحدد الأسعار وفقا لقوى العرض والطلب، أو وفقاً للمنتج الذي يتمتع بقوة احتكارية.
هذه الفقرة الأخيرة تفسر أمرا غاب عن أغلب الخبراء والمحللين: إن عدم وجود عجز في الأسواق مقارنة بما حدث في السبعينيات لا يعني "وفرة الإمدادات"، وإلا لما ارتفعت الأسعار بهذا الشكل. لقد نتج العجز في السبعينيات عن سياسات التسعير التي تبنتها حكومة الرئيس نيكسون في ذلك الوقت، ولو تم تطبيق هذه القوانين نفسها اليوم لعانت الولايات المتحدة عجزا كبيرا في الإمدادات. إن ارتفاع أسعار النفط بشكل سريع خلال شهور قليلة إلى نحو 120 دولارا للبرميل يعني شيئاً واحداً فقط: الإمدادات غير كافية لمقابلة النمو على الطلب. وإذا كانت البيانات الأخيرة صحيحة، فإنه من غير المنطقي أن ترتفع الأسعار في وقت انخفض فيه النمو على الطلب بهذا الشكل.
دور المضاربين
إن ما يشار إليه على أنه مضاربات، ليس كله مضاربات. فهناك صناديق تحوط تعتمد على الاستثمار في السلع، بما في ذلك النفط، كأداة استثمارية لتنويع الاستثمار وتخفيض المخاطرة، بغض النظر عن السعر المستقبلي للنفط. وحتى لو دخلت هذه الصناديق السوق بهدف المضاربة فإنهم لن يدخلوا السوق إلا إذا توقعوا أن ترتفع أسعار النفط في المستقبل. الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق هي: لماذا يتوقع المضاربون استمرار الأسعار بالارتفاع؟ وما دور "أوبك" في هذه التوقعات؟ وما دور تصريحات وزراء أوبك؟ وما دور فوائض "أوبك" في هذه المضاربات؟ إن دخول المضاربين السوق نتيجة توقعهم لارتفاع أسعار النفط في المستقبل يؤدي إلى زيادة الطلب على النفط، فإذا لم تستجب "أوبك" لذلك بزيادة الإنتاج؟ فإن النتيجة الحتمية هي ارتفاع شديد في الأسعار.
ولكن قد يقول البعض إن المضاربين يتاجرون بـ "براميل ورقية" لذلك فإن الزيادة الناتجة عن المضاربات المذكورة أعلاه ليست زيادة حقيقية، وهذا يعني أن المضاربين وراء رفع أسعار النفط. إذا كان الأمر كذلك فإنه يجب فصل السوق الحقيقية، والتي يسميها البعض "الرطبة" نسبة للنفط كونه سائلا، عن سوق المضاربات، والتي تسمى "الورقية". في هذا الحالة لدينا نموذجان لفهم السوق، الأول يعبر عن السوق "الرطبة" ويمكن التعبير عنه بنموذج "احتكار القلة" المعروف في علم الاقتصاد، والآخر يعبر عن السوق "الورقية" ويمكن التعبير عنها بسوق تنافسية يتحدد فيها السعر بناء على قوى العرض والطلب. المشكلة هنا أنه إذا تم فصل السوق بهذا الشكل فإن عرض عقود النفط في السوق الورقية لانهاية له لأنها تجارة ورق فقط. هذا يعني أن منحنى العرض هو خط أفقي مستقيم، خاصة أن تكاليف تقديم عقود جديدة لا ترتفع مع زيادة عدد العقود. هذا يعني أنه مع زيادة المضاربات وزيادة الطلب، تبقى الأسعار كما هي. إذاً كيف تؤدي المضاربات إلى رفع الأسعار؟
من هذا المنطلق لا يمكن فصل المضاربات في أسواق منفصلة كما يقترح البعض، ويجب التركيز على نموذج احتكار القلة وأثر المضاربات في زيادة الطلب، والتي تشمل أيضا عمليات تخزين النفط بهدف بيعه بسعر أعلى في المستقبل. هذا يقودنا إلى ما ذكر آنفاً: لا يمكن للمضاربات أن تستمر إذا قامت "أوبك" بزيادة الإنتاج. لكن المشكلة أن الواقع عكس ما ذكر حيث إن المخزون ينخفض، والمضاربات انخفضت عدة مرات في وقت استمرت فيه الأسعار في الارتفاع.
خلاصة القول إنه علينا أن نفهم الفرق بين فترة الارتفاع الحالية وفترة الارتفاع في السبعينيات وما كان لأسعار النفط أن تصل إلى ما وصلت إليه لو كانت هناك طاقة إنتاجية فائضة تتجاوز أربعة ملايين برميل يوميا. ليست هناك وفرة في الإمدادات، ولكن نحن في وضع لا يتناسب فيه نمو الإمدادات مع النمو في الطلب. ما الدليل على ذلك؟ هناك من يرغب في أن يشتري النفط بـ 60 دولارا للبرميل مثلاً، ولكنهم ليسوا جزءاً من الطلب لأن السعر أعلى من ذلك بكثير. عند سعر 60 دولارا، هناك عجز ضخم في الإمدادات.