السياسة المالية.. التجربة الأرجنتينة (1 من 2)

[email protected]

فجوات السياسة المالية كفيلة بتغيير حالة اقتصاد وطني طموح من مرحلة نهضة تنموية شاملة إلى مرحلة ركود اقتصادي عام في غضون سنوات قليلة. تلك هي تجربة الاقتصاد الأرجنتيني خلال عقد التسعينيات الميلادية من القرن الماضي.
تحمل تجربة الاقتصاد الأرجنتيني خلال التسعينيات الميلادية من القرن الماضي في طياتها العديد من الفوائد حول جدوى الآليات المالية في نمو واستدامة الاقتصادات الوطنية. شهدت الأرجنتين خلال تلك الفترة نهضة تنموية شاملة عمت بنفعها معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
عزيت أسباب النهضة التنموية الشاملة إلى عدة عوامل رئيسة من أهمهما برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي قاد تنفيذه الرئيس الأرجنتيني خلال تلك الفترة الزمنية، كارلوس منعم، ووزير ماليته، دومنجو كفالو.
ارتكز برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل هذا على أربعة سياسات مالية رئيسة. السياسة الأولى ربط العملة النقدية، البيسو الأرجنتيني، بالدولار الأمريكي عند مستوى متساو، بيسو أرجنتيني يساوي دولارا أمريكيا واحدا.
والسياسة الثانية إنشاء مجلس اقتصادي تحت اسم مجلس العملة النقدية ليتولى بموجبه تنفيذ جميع المهام الإشرافية والتنفيذية ذات العلاقة بالارتباط بالدولار الأمريكي. والسياسة الثالثة فتح الاقتصاد الأرجنتيني أمام الاستثمار الأجنبي والتجارة الدولية. والسياسة الرابعة تخصيص مجموعة كبيرة من المؤسسات والشركات الأرجنتينية العامة.
دخل برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل حيز التنفيذ بداية التسعينيات الميلادية من القرن الماضي. سرعان ما أتت ثمار البرنامج أكلها عندما بدأ الاقتصاد الأرجنتيني الدخول في مرحلة نهضة تنموية شاملة عمت بنفعها معظم جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
من أهم مؤشرات هذه النهضة التنموية، أولاً، انخفاض معدل التضخم بعد أن شكل خلال الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي معضلة أمام نمو الاقتصاد الأرجنتيني. وثانياً، زيادة وتيرة تدفق الاستثمار الأجنبي إلى الاقتصاد الأرجنتيني. وثالثاً، تسجيل الاقتصاد الأرجنتيني معدل نمو سنوي قارب الـ 5.7 في المائة، كأعلى نسبة نمو اقتصادي بين اقتصاديات أمريكا اللاتينية خلال تلك الفترة الزمنية.
تزامنت هذه النهضة التنموية مع ثلاثة تطورات في السياسة المالية الأرجنتينية. التطور الأول التوسع في الإنفاق الحكومي على مشاريع تطوير البنى التحتية والطاقة والاتصالات دون رفع نسب الضرائب. والتطور الثاني الاعتماد على المصارف الأرجنتينية لتمويل مشاريع الإنفاق الحكومي قبل وضع حدود ائتمانية. والتطور الثالث افتراض أن النهضة التنموية الحاصلة من النوع المستديم عوضاً عن المؤقت دون وضع سياسة إدارة مخاطر مالية لتفادي العواقب عند حدوث عكس المفترض.
استمرت هذه النهضة التنموية حتى 1996 قبل أن تحد من درجة نموها وتدخل الاقتصاد الأرجنتيني في دوامة ركود اقتصادي حتى 2002. ستة أعوام من الركود الاقتصادي فترة زمنية كافية للقضاء على اليابس ناهيك عن الأخضر في اقتصاد طموح متوسط الحجم والمتانة كالاقتصاد الأرجنتيني.
وكما عزيت أسباب النهضة التنموية إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي قاد تنفيذه الرئيس الأرجنتيني خلال تلك الفترة الزمنية، كارلوس منعم، ووزير ماليته، دومنجو كفالو، عزيت أسباب الركود الاقتصادي أيضاً إلى البرنامج ذاته بسبب و جود ثلاثة فجوات منطقية.
الفجوة الأولى منهجية مجلس العملة النقدية الإشرافية والتنفيذية في إدارة ارتباط البيسو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي. أدى تأسيس مجلس العملة إلى تعطيل معدل الصرف والسياسة المالية. السبب في ذلك أن معدلات الفائدة تحدد من قبل البنك المركزي الفيدرالي الأمريكي عوضاً عن البنك المركزي الأرجنتيني.
أنعكس تعطيل معدل الصرف والسياسة المالية بالسلب على السلع الأرجنتينية المصدرة إلى الأسواق العالمية. فحرمت هذه السلع الأرجنتينية من الاستفادة من زيادة أسعار السلع في الأسواق العالمية كون أسعار السلع الأرجنتينية ظلت دون تغيير في الوقت الذي نعمت مثيلاتها الواردة من الاقتصاديات الأخرى غير المرتبطة بالدولار الأمريكي بارتفاع أسعارها.
والفجوة الثانية تراجع قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات العالمية الأخرى. أدى تراجع الدولار الأمريكي مقابل العملات العالمية الأخرى إلى زيادة أسعار السلع الأرجنتينية عن مثيلاتها الواردة من الاقتصاديات الأخرى في السوق الأرجنتينية.
و الفجوة الثالثة تواضع التنسيق التجاري البيني مع جارة الأرجنتين وشريكتها التجارية الرئيسة، البرازيل. حيث أعلنت البرازيل تخفيض قيمة عملتها دون تنسيق مسبق مع الأرجنتين مما انعكس بالسلب على أسعار السلع الأرجنتينية المصدرة إلى الأسواق البرازيلية مقابل أسعار مثيلاتها الواردة من الاقتصاديات الأخرى.
وضعت هذه الفجوات الثلاثة برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الأرجنتيني أمام تحديين. التحدي الأول بلوغ الحكومة الأرجنتينية حدها الائتماني لدى المصارف الأرجنتينية بسبب استنفاذ هذا الحد في تمويل برنامج التوسع في الإنفاق الحكومي. و التحدي الثاني امتداد للتحدي الأول والمتمثل في عدم تجاوب المصارف الأجنبية لتوفير التمويل اللازم لدعم الصادرات الأرجنتينية للأسواق العالمية.
تكملة التجربة الأرجنتينية، ومقارنتها بواقع الاقتصاد السعودي هما محورا النصف الآخر من المقال، بعون الله

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي