المدن المتوسطة.. قلت لك؟!!
حدثته كثيرا عن أهمية دعم تنمية المدن المتوسطة خصوصاً عواصم المناطق أو المدن الرئيسة في كل منطقة وأن الاهتمام بها وتطوير قدراتها التنموية الإنسانية والمكانية سيساعدان على جذب الاستثمارات والكفاءات لها ويحدان من الهجرة للمدن الرئيسة وأن تلك المدن تمثل صمام الأمان لدعم تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة.
قلت له إن المدن المتوسطة اليوم تعيش مرحلة من الضعف مما لا يساعدها على دعم أهداف التنمية، مدن تعيش وفق حياة رتيبة بمعنى أنها مدن في مستوى القرى ونمط الحياة فيها لا يرقى إلى ما يمكن أن يجعلها في مصاف المدن ولا يمكن تعريفها وفقا لذلك أنها مدن وإنما قرى كبيرة ونحن نعرف جميعاً الفرق بين حياة المدينة وحياة القرية أو هذا ما أرجوه خصوصاً من يعنيهم أهمية تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة، قلت له إن مستويات وكفاءات التعليم في تلك المدن لا ترقى لطموح الكفاءات التي ترغب أن تعلم أبناءها من الجنسين حتى يكونوا قادرين على المنافسة العالمية، حياتها الاجتماعية بسيطة ولا تستطيع أن تقضي فيها ساعات للترفيه الاجتماعي أو التسوق لانعدام مقوماتها وإن وجدت فهي بسيطة ولا تحقق لك الخصوصية التي تطلبها في المدن الرئيسة أو الكبيرة.
قلت له خدماتها ومرافقها لا تساعد على توطين استثمارات أو جذب سكان وربما يمكن أن نطلق عليها أنها مرافق فقيرة، ولهذا فإن قدرتها على استقطاب الشركات الكبيرة ضعيفة. وكما تعرف التأثير التنموي لتلك الشركات الكبيرة في التنمية وإيجاد الفرص الوظيفية والتغيير في النمط والسلوك الاجتماعي والوظيفي، ولهذا تجد الفرص الوظيفية في المدن المتوسطة محدودة وربما محدودة جدا، حتى أن بعض المناطق في المملكة لا يوجد بها أكثر من وظيفتين على المرتبة 15، هذه العوامل وغيرها كثير أثرت في قدرة تلك المدن على استقطاب الكفاءات وأثرت سلبا في بعض الكفاءات الموجودة بها حيث أصبحت تلك الكفاءات غير قادرة على إحداث التغيير لأسباب كثيرة منها الترهل الذي أصاب الأجهزة التي يعملون بها ومحاولة بعض الكفاءات الأخرى الانطواء لتقليل حجم الجهد والعمل والمسائلة، كما أن القدرة على التطوير والإبداع محدودة وربما ضعيفة وهذا أدى إلى تعطيل تنفيذ الكثير من المشاريع الحكومية أو تعثر تنفيذها وأثر ذلك سلباً في دور القطاع الخاص مما أدى إلى ضعفه وهزله وربما انتقاله إلى مناطق أو مدن أكبر وأقدر على تحقيق طموحه، جميع هذه الأسباب وغيرها كثير أدت إلى تغيير نمط العمل الحكومي في بعض تلك المناطق، حيث أصبح العمل بين أجهزة تغط في نوم عميق أو يغلب على بعضها الآخر المصالح الخاصة، حيث أصبحت الوظيفة لبعضهم أو الجهاز مؤسسة خاصة يديرها لإنهاء مصالحه وتقوية علاقاته ضمن محيطه الاجتماعي الضيق المغلق.
قلت له إن لم نهتم بتلك المناطق ومدنها وندعم المزيد من التنمية الحقيقية بها فإن الأمر سيصبح مع الوقت أصعب وفرص التعديل أو التطوير معدمة، قلت له إن كل ذلك سيؤدي إلى تضخم عدد محدد من المدن الرئيسة ويضعف العدد الأكبر من المدن، هذا التضخم سيكون على حساب رفاهية المواطن في كلا المدن المتضخمة والضعيفة، قلت له إن الحياة المعيشية والعملية والاجتماعية والبيئية في كلا المدن المتضخمة والضعيفة سيكون أصعب غلاء فاحش في مدن متضخمة واستثمار قليل في مدن ضعيفة، الحقيقة إن رحلت قلت له أخذ سنوات من الحديث، حتى أيقنت أنه قد مل من ذلك الحديث، وأعتقد أنني أبالغ في قلقي التنموي وأن الوضع لم يصل ولن يصل إلى ما أشير إليه، وهكذا دارت الأيام بيننا أقول له عن معاناة التنمية في المدن المتوسطة وهو يستمع فقط حتى لا يعطيني الإحساس بالملل من حديثي المكرر غير الواقعي في بعض جوانبه.
لقد التقيت به هذه المرة بعد أن تحمل مسؤولية تنمية جزء من أجزاء التنمية في إحدى المناطق وبعد تجربة لا تزيد على ثلاثة أشهر، لقد بدأ الكلام أو الحديث عن وضع تلك المنطقة ومدينتها الرئيسة الوحيدة وكيف أن الحياة بها مملة وأنه يحاول استقطاب الكفاءات ولكن لا مجيب لمحاولاته أو إغراءاته، حدثني وقال لي الكثير عن المعاناة في تلك المدينة من نقص الخدمات والمرافق وضعف البنية الاقتصادية وعدم توافر المساكن الملائمة وغياب المدارس التي يستطيع أن ينقل أبناءه من الجنسين إليها، حتى قدرات المدينة الفندقية ضعيفة، حيث لا يستطيع أن يقيم مناسبة للتعريف بالمؤسسة التي يعمل بها، حدثني عن وضع بعض المسؤولين في تلك المنطقة وكيف أن أغلبهم يعيشون دون أسرهم، للأسباب التي ذكر وأكثر، لقد طال حديثه وتشعب وهو يشرح حجم المعاناة والفجوة التنموية بين بعض المناطق والمدن وأن ذلك يؤثر سلبا في مستقبل التنمية ولا يمكن أن يحقق التنمية المتوازنة والمستدامة التي تسعى الحكومة إلى تحقيقها، لقد اقترح الكثير من الأفكار والآراء حول أهمية الاهتمام والاعتناء بسكان تلك المدن وأن عدم الاهتمام بهم سيؤدي إلى هجرة الأجيال الشابة منهم نحو المدن الرئيسة وهذا سيضعف قدرة المدن الرئيسة على القيام بما يجب أن تقوم به وفي الوقت نفسه يضعف المدن المتوسطة عن القيام بما يجب أن تقوم به.
تبسمت وهو يتحدث ويطلب مني أن أكتب عن هذه المشكلة، قلت له ألم أقل لك خلال كل هذه السنين إن مدننا المتوسطة تعاني ضعف الإمكانات وترهل الإدارات وانطواء الكفاءات وضعف القاعدة الاقتصادية، لقد قلت لك... وقلت لك... وقلت لك...!!!
وها أنت اليوم تعيش المشكلة التي حذرت منها وتحدثت وكتب عنها، هل يحتاج الواحد منا لكي يصدق ذلك أن يعيش التجربة، وإذا كان ذلك صحيح فياليت مسؤولينا التنفيذيين ينتقلون للعيش في تلك المدن ويعانون مما عانيته حتى يصدقوا الفجوة التنموية الموجودة، ولا تكون زياراتهم لمدة ساعات محددة يأتون لتلك المدن وهم محفولون مكفولون بكل شيء وعن كل شيء، فقط ياليت!!
وقفة تأمل :
وما طالب الحاجات من كل وجهة
من الناس إلا من أجدّ وشمرا
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه
شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلّا وأوشكت
صلات ذوي القربى له أن تنكرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى
تعش ذا يسار أو تمت فتعذرا