في الغلاء .. ما حك جيبك مثل صرفك
فجأة ودون سابق إنذار وخلال عدة أشهر فقط أخذ الغلاء, أو بلغة علم الاقتصاد التضخم, يضرب يمينا وشمالا بحيث لم تنج من براثنه سلعة واحدة ولا خدمة مهما كانت, فمؤشر الأسعار في تصاعد يذكرنا بذلك التصاعد الذي حدث لسوق الأسهم حيث أخذ يقفز كحيوان الكنغر الأسترالي الشهير بسرعته حتى وصل إلى ما فوق 20 ألف نقطة قبل أن ينتكس بغالبية بسطاء الناس الذين وثقوا وقتها بتوصيات المحللين بأن السوق في صعود دائم ومستمر حتى هوى بهم كلجمود صخر حطه السيل من عل ـ كما قال الشاعر.
هذا الغلاء الذي يقلق الغالبية الساحقة من الناس, سيؤدي إلى جر شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى, وهي الطبقة الأكبر والأوسع, إلى منطقة الفقر الفعلي, على الرغم من توافر داخل شهري ثابت لها. والعبرة هنا ليست في توافر دخل ثابت بل في القيمة الشرائية المتناقصة والمتآكلة لهذا الدخل في ظل تصاعد الأسعار المتسارع, ما سيقود, خلال فترة وجيزة, إلى توسيع حجم الطبقة الفقيرة في بلادنا إذا ما اعتبرنا الفقر هو عدم قدرة الدخل على تأمين جزء من الاحتياجات الأساسية للفرد ولا الكمية الكافية ولا النوعية الجيدة, وجميعها فوارق ومقاييس لمجتمع الرفاهية ومجتمع المعاناة. ولسنا في حاجة إلى أن ندخل في تعاريف علمية للفقر والفقر المدقع والعوز ومقاييس الفقر وفقا لإمكانات الدول ومصادر دخلها, فلا يمكن مثلا تطبيق المقياس ذاته في دولة دخلها عشرة أو عشرين مليارا في دولة دخلها يفوق المئات من المليارات, فالمقارنة هنا ظالمة وغير واقعية.
المهم في ذلك أننا أمام حالة صعبة يطحن فعلا فيها المواطن, وإذا سلمنا وهذه حقيقة بأن الجزء الأكبر من هذا الغلاء خارجي, إلا أن السؤال هو: ما الذي علينا فعله؟ هل نقف مكتوفي الأيدي وكأن لا حول لنا ولا قوة, أم لا بد لنا أن نعالج هذا الغلاء أو على أقل تقدير الحد منه بقدر الإمكان بشقيه الداخلي والخارجي.
من تجربة الشهور الماضية لا بد أن يسلم المواطن/ المستهلك بأنه لا توجد حلول اقتصادية سحرية توقف على الأقل زحف الأسعار إلى الأعلى, فالجهات الاقتصادية المعنية يبدو أنها رفعت رايات الاستسلام, وأن أي عمليات إنقاذ من أي نوع ليست واردة, وهنا أصبح لا بد مما ليس منه بد بالنسبة لهذا المواطن/ المستهلك, بمعنى أن عليه أخذ مبادرة وإن كانت مرة المذاق بخفض مستوى معيشته حتى ولو كان الثمن التخلي عن شيء من رفاهيته التي تعود عليها على مدى عقود, وذلك بأن يبدأ بإعادة برمجة مصروفاته وأولوياته, وأن يوقف تطلعاته بإضافة تطوير نوعي لحياته, ويتخلى عن مميزات حصل عليها وظن أنها دائمة, وكثير من أوجه هذه المراجعة مستحقة لكي نخفف من آثار هذا الغلاء, وهي مسؤولية فردية بعد أن عزت الحلول الاقتصادية.
تقول دراسة لمركز البحوث والدراسات في الغرفة التجارية الصناعية في الرياض, وألفت النظر هنا إلى أن مثل هذه الدراسات هي فقط مؤشر ليس إلا حتى ولو توافر لها كامل أركان الدراسة القياسية العلمية بعنوان "التوجهات الاستهلاكية للأسر السعودية" ما يلي: 64 في المائة من الأسر تنفق أكثر من 500 ريال شهريا على سياراتها, و70 في المائة تدفع ألف ريال لفواتير الهاتف الثابت والجوال, وتدفع الأسر التي متوسط دخلها 6760 ريالا 400 ريال قيمة استهلاك كهرباء, خاصة في فصل الصيف, ونصف الأسر تنفق 20 ألف ريال سنويا على الإجازات والترفيه, وما بين 1500 إلى خمسة آلاف ريال رواتب العمالة المنزلية.
هذه المصروفات التي تستنزف دخل الأسر السعودية ليست من الضروريات الملحة بل يمكن التقليص منها لتوفير جزء من دخلها, فيمكن لأي أسرة حصيفة واعية أن تتكيف مع ذلك بالقدر الذي لا يحرمها على الأقل من أساسيات لحساب كماليات يمكن التقليل منها والاستغناء عنها, فقد جاءنا الوقت الذي بتنا نتحسس فيه جيوبنا ونقنن مصروفنا, فزمن "الفشخرة" ولى, ونتمنى ألا يكون بغير رجعة, و"الفشخرة" للمعلومية هي الاسم الشعبي للرفاهية, فلا حل لمصيبة الغلاء إلا بالمبادرة الفردية على قاعدة "ما حك جلدك مثل ظفرك".