أمريكا.. ديمقراطية مخترقة

[email protected]

عندما ترى المرشحين للرئاسة في اللحظات الحرجة للعملية الانتخابية الأمريكية يهرعون إلى القدس وإلى حائط المبكى بالذات، وهو المكان الذي له دلالاته الرمزية ويعطي الفرصة لكاميرات التلفزيون ولعدسات المصورين أن يأخذوا الصور المناسبة جدا.. هذا المشهد الذي تكرر قبل أيام مع المرشح الجمهوري القوي جون ماكين .. ألا يؤكد أن الديمقراطية الأمريكية مخترقة من (لوبيات المصالح)، وهنا أكبرها وأبرزها اللوبي اليهودي!
تطور هذه الممارسات وتحولها إلى ما يشبه الظاهرة ربما يعكسان تحولا في بنية النظام السياسي الأمريكي، وأبرز ملامح هذا التطور نجده في تحول التأثير الرئيس والمهم على المرشحين من النطاق العريض للناس بمختلف خلفياتهم ومرجعياتهم ليكون هذا التأثير الرئيس والفاعل مصدره الجمعيات والمنظمات على اختلاف توجهاتها ومصالحها.
نطرح السؤال: هل يعود تطور هذه الظاهرة أيضا إلى تأثير الجماعات المنظمة في المجتمع الأمريكي ومدى قوتها ووضوح أهدافها وقدرتها على العمل المحترف المنظم أكثر من الجماهير المتفرقة؟ ربما الوضع كذلك، وربما هذا يفسر حجم التأثير الكبير الذي تتركه القوى اليهودية التي تنظم عملها عبر مراكز الأبحاث أو الهيئات أو المنظمات المدنية غير الربحية، وطبعا أقوى تكتل للمجموعات اليهودية هو في وسائل الإعلام.
خطورة التأثير الإعلامي وقوته على صورة المرشح للرئاسة ومدى إحداث الإجماع حوله، هو الآخر تطور نوعي في الانتخابات الأخيرة، فأنت تسمع عن المرشح أكثر مما تسمع عن الحزب وبرنامج الحزب، وتشعر أحيانا أن المرشح وحده، فالجماهير على اتصال مباشر مع المرشح، وربما هذه التطورات المعاصرة والمهمة التي تعكس أهمية وسائل الإعلام والاتصال بأشكالها الحديثة، مثل الإنترنت، فهذه التطورات في البيئة الإعلامية جعلت المرشح أكثر اتصالا وتأثيرا في الناس.
تسهيل الاتصال بالناس وسرعة تواصل المرشحين مع جمهورهم المستهدف ميزة إيجابية، هذا في الإطار النظري، لكن عمليا تركز ملكية وسائل الإعلام وخضوعها لتأثيرات جماعات الضغط لا يمكن أن يحققا هذه الخاصية بالذات ما يتعلق بحيوية التواصل بين الناس ومرشحيهم على عدالة عملية الانتخابات وهذا ما جعل (جون ماكين يهرع إلى الملاذ الأخير لدفع حظه بالفوز بالرئاسة، أي إلى إسرائيل على اعتبار أن المتطرفين الصهاينة من يهود ومسيحيين هم من الجماعات الأكثر تأثيرا في وسائل الإعلام، وهذا أحد مصادر الخلل في الديمقراطية الأمريكية.
الذي ساعد على الحيوية النسبية للديمقراطية في أمريكا في السنوات الأخيرة هو توسع دوائر الاتصال عبر قنوات جديدة من أبرزها طبعا الإنترنت، فهذه ساعدت المرشحين على التواصل الواسع مع الناس وبتكاليف قليلة، وهذا ما أعطى المرشح الديمقراطي باراك أوباما الدفعة القوية للانطلاق بحملته الانتخابية، فقد اتجه إلى القواعد الشعبية ليستمد منها التمويل وليطرح برنامجه الانتخابي، وهذه الخاصية للاتصال الشعبي هي التي أعطته الفرصة ليتقدم!
القدرة على الوصول للناس بشكل واسع عبر وسائل الاتصال الجديدة، تطور نوعي فرضته ثورة المعلومات المعاصرة، وهذا التطور النوعي قد يؤدي في المستقبل إلى تقليل الهيمنة التي يفرضها الإعلام السياسي على مجرى الأمور العامة، بالذات توجيه الحملات الانتخابية، ولعل هذا يشكل مصدر إنقاذ للديمقراطية في أمريكا، فنحن عموما ليس في مصلحتنا أن تُختطف أو تُخترق العملية الانتخابية لدولة عظمى مثل أمريكا حيث تقع عليها مسؤولية رئيسة تجاه الأمن والسلام العالميين، فأمريكا مازال لديها الكثير من الإنجازات الإيجابية التي تقدمها للبشرية.. ولكن مشكلتها في اختلال مصادر العدل وتراجع الحكمة السياسية، وخضوع مؤسساتها المهمة اقتصاديا وسياسيا لجماعات الضغط والمصالح.. وصور المتسابقين على الرئاسة عند (حائط المبكى) تستدعي مشاعر القلق والخوف من كل الأعمال التي تقوم بها أمريكا لأنها تبدو أحيانا أبعد ما تكون عن المصالح الحيوية للأمن القومي الأمريكي.. وبعد مرور خمس سنوات على (تدمير) العراق علينا أن نتذكر أن ديمقراطية أمريكا هي (ديمقراطية القلة) المخترقة والمختطفة، فماذا استفادت أمريكا من حرب بلغت تكلفتها حتى الآن أربعة تريليونات من الدولارات؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي