بعض السياسات العامة أدت إلى الأزمة الإسكانية
تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن الجدل الأكاديمي الدائر بشأن ما إذا كان السكن حقا اجتماعيا أم سلعة تخضع كغيرها من السلع لقوانين العرض والطلب، مستشهداً في ذلك بآراء بعض الباحثين. وكما سبق أن أشرت، فإن تحديد النظرة إلى السكن، كحق اجتماعي أم سلعة مهم في عملية التعامل مع السياسات المتعلقة في قطاع الإسكان. فالنظرة إلى السكن على أنه حق اجتماعي يفرض على الدولة أعباء أكبر لإنجاز هذا الحق، أما النظرة إليه على أنه سلعة, فإنه يحد من التدخل المباشر للدولة في سوق الإسكان، ويقصر دور الدولة على ضمان أن تعمل قوى العرض والطلب في سوق الإسكان بالشكل المطلوب، وألا تؤدي سياسات الدولة العامة إلى تقييد أي منهما، أي العرض أو الطلب. لكن الواقع غير ذلك، إذ تدلل الوقائع التاريخية على أن السياسات العامة نفسها، والتي كانت تهدف إلى توفير الإسكان المناسب لكل مواطن، أدت بشكل غير مباشر إلى تقييد العرض من الإسكان، وفي الوقت نفسه رفع أسعاره بشكل كبير، الأمر الذي أدى، مع تزايد النمو السكاني، إلى خلق مشكلة إسكانية حقيقية في المملكة.
وكنت قد ضربت مثالاً على ذلك بسياسات صندوق التنمية العقاري، والذي كان له دور كبير في النهضة العمرانية الأولى التي شهدتها المملكة، لكن اشتراطاته المتعلقة بامتلاك الأرض، مثلاً، أدت إلى تجميد مساحة كبيرة من سوق الأراضي، ما أدى بالتالي إلى الحد من المعروض وتضخيم قيمة الأراضي بشكل لا يتناسب مع المساحات الكبيرة الموجودة فعلياً على أرض الواقع. عامل آخر أشرت إليه هو سياسات المنح الواسعة التي قدمتها الدولة وفي جميع مناطق المملكة وذلك بهدف، كما أظن، توفير الأرض لكل مواطن يريد إقامة سكنه عليها، لا لبيعها والاستفادة المادية منها، والتي أدت بالتالي إلى خلق فرصة كبيرة لتجار العقار للمضاربة على أسعار هذه الأراضي وتضخيم قيمتها بالاحتفاظ بها لفترات طويلة، دون دفع أي رسوم ضريبية عليها، الأمر الذي ينتهي بالشخص الذي يريد الاستفادة من هذه الأرض للسكن بدفع أضعاف القيمة الحقيقية لهذه الأرض. أي أن كلتا السياستين، وإن كان الهدف الأساسي لهما واضحاً، وهو الحرص على رفاهية المواطن، إلا أن الآثار العكسية لهما كانت كبيرة في تشويه الوضع التنافسي للسوق, ما أدى إلى النتائج التي نشهدها حالياً.
هناك سياسات عامة أخرى أدت إلى تشويه الوضع التنافسي للسوق، تتمثل في السياسات البلدية المتعلقة بكل ما من شأنه تنظيم المدن والقرى، بهدف توفير البيئة الملائمة للمواطن للسكن والإقامة والعمل. من أمثلة ذلك أنظمة تقسيم السكن، تحديد مساحات السكن، سياسات حجز الأراضي سواءً للخدمات أو لجهات حكومية أخرى، تحديد ارتفاعات المساكن، تحديد النطاق العمراني، التأخر في توفير الخدمات لبعض المناطق، تقييد إجراءات الفسح للمشاريع الإسكانية الجديدة، الشروط المشددة المتعلقة بمواصفات البناء. كل هذه العوامل والتي تهدف من خلالها البلديات وأمانات المدن إلى رفاهية المواطن أدت بلا شك إلى المساهمة إما في تحديد المعروض من المساكن أو في رفع تكلفة البناء, وكلاهما أدى بالأخير إلى رفع أسعار المساكن. هذه السياسات، وإن كانت، كما أشرت، هدفها توفير بيئة تتكامل فيها ظروف الحياة الاجتماعية والعملية، إلا أنها في الوقت نفسه أدت إلى آثار سلبية على الوضع التنافسي للسوق.
والهدف هنا ليس إلقاء اللوم على الأمانات والبلديات أو أي جهة حكومية أخرى وتحميلها مسؤولية الأزمة السكانية الحالية. لكن الهدف إيضاح كيف أن السياسات الاقتصادية العامة، والتي تهدف في الأساس إلى تحقيق الرفاهية للمواطن، قد تؤدي بشكل غير متعمد، إلى خلق مشكلة أخرى في الاقتصاد. لذا، فإن الدراسة المتأنية للآثار العكسية المحتملة لكل سياسة ستؤدي إلى التقليل من تلك الآثار السلبية المستقبلية لها، وسيضمن بالتالي تحقيق الأهداف المرجوة منها. أضف إلى ذلك، أن المراجعة المتأنية للسياسات السابقة، وفي القطاعات كافة، يمثل الطريق الصحيح لمعالجة المشكلات الاقتصادية الحالية. لكن إجمالاً، ومن حيث المبدأ، فيجب ألا تؤدي أي سياسة اقتصادية، وفي أي مجال، إلى تقييد حرية السوق ومن ثم تشويه إما جانب العرض أو الطلب فيه. ما يعني أنه يجب وضع تعريف دقيق للخط الذي يفصل بين الهدف التنظيمي لكل جهة حكومية (تحديد المناطق التعليمية في كل مخطط مثلاً) والذي يُتفق على أهميته لتحقيق رفاهية المواطن، وبين الهدف التنظيمي الذي يؤدي إلى تشويه السوق (حجز الأراضي بمساحات واسعة) بتقييد حرية عاملي العرض والطلب، ومن ثم خلق مشكلات اقتصادية مستقبلية.