...بل شريعة حضارة ومدنية

دعا روان ويليامز، كبير أساقفة كانتربري في بريطانيا إلى تطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلامية على المسلمين الذين يعيشون في بريطانيا والذين يقدر عددهم 1.7 مليون نسمة، بحيث يترك للمسلمين حرية الاختيار بين تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أو القانون البريطاني على المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية أو الشؤون المالية. وقال كبير الأساقفة الذي يشغل أيضا منصب رئيس الكنيسة الإنجليكانية العالمية البالغ عدد أعضائها أكثر من 70 مليون عضو، إن تطبيق الشريعة الإسلامية أمر لا مناص منه لأنه يساعد على التلاحم الاجتماعي وتمكين المسلمين من الاختيار بين الأنظمة القانونية.
وأضاف قائلا إن هناك حاجة إلى مناقشة بشأن ما إذا كان النظام القانوني الحالي يمكن أن يلبي طلبات (مجتمع متعدد العقائد) وأنه يتعين على بريطانيا أن تواجه الحقيقة التي مفادها أن بعض مواطنيها ليس لهم صلة بالنظام القانوني البريطاني، وإنه لا ينبغي أن يكون المسلمون مضطرين إلى الاختيار بين بدائل قاسية بالنسبة لهم. إما الولاء الثقافي أو الولاء للدولة التي يعيشون فيها. وأكد أن على البريطانيين أن يتعاملوا بذهن منفتح مع الشريعة الإسلامية وأن المطلوب فهم أفضل للشريعة الإسلامية، مشيرا إلى أن فكرة وجود قانون واحد للجميع يحمل في طياته بعض الخطر.
ولقد أثارت تصريحات كبير أساقفة كانتربري جدلا واسعا في بريطانيا وسارع المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون إلى الرد مشددا على ضرورة تطبيق القانون البريطاني بالاستناد إلى القيم البريطانية.
وإذا كان من المفهوم أن تحظى تصريحات كبير الأساقفة بانتقادات حادة في بريطانيا وخصوصا في ظل الأجواء المعادية للإسلام والمسلمين السائدة في الغرب، إلا أن الأمر الذي يدعو إلى الدهشة والاستغراب الشديدين أن يفسر كاتب من المسلمين دوافع كبير الأساقفة بطريقة تنطوي على التطاول على الشريعة الإسلامية وعلى خلاف ما قصده كبير الأساقفة، فالأستاذ محمد الحداد نشر مقالا في جريدة الحياة بتاريخ 17/2/1429هـ الموافق 24/2/2008م بعنوان (الشيخ القرضاوي وقضاياه مجددا)
جاء في نهايته حرفيا ما يلي:ـ
(كلمة أخيرة حول تصريحات أسقف الكنيسة الإنجليكانية الأخيرة. إني لم أر فيها تمجيدا للمسلمين ولا تعاطفا معهم، بل هي أقرب إلى أن تكون عكس ذلك. الخلفية واضحة: المهاجرون المسلمون عجزوا عن أن يندمجوا في قوانين المتحضرين والمتمدنين، اتركوهم يطبقون قوانينهم وامنحوهم هذا الاستثناء كما تمنح الاستثناءات إلى أصحاب العاهات. هذا موقف لا يمكن أن يسرني ولا أن أعتبره مكسبا لي).
واضح من سياق العبارات سالفة الذكر، أن الكاتب نسب إلى كبير الأساقفة شيئا لم يقله ولم يقصده، فكبير الأساقفة لم يتطاول على الشريعة الإسلامية بل دعا البريطانيين إلى التعامل معها بذهن منفتح وخصوصا أنه يرى أن بعض معايير الشريعة معترف بها في المجتمع البريطاني, وأنه يرى في تطبيق الشريعة الإسلامية على بعض جوانب حياة المسلمين في بريطانيا وسيلة مساعدة على اندماجهم في المجتمع البريطاني، لأنه أدرك أن أحكام الشريعة الإسلامية بوصفها قانونا إلهياً جاء به الدين الإسلامي تتصل اتصالا وثيقا بعقيدة وإيمان المسلمين ولذلك فإنه ليس من العدل إلزام المسلمين في بريطانيا بقانون يتعارض مع عقيدتهم في مجال يتعلق بشؤونهم الأسرية.
ومهما يكن من أمر فإنه لدحض ادعاء من يدعي أن الشريعة الإسلامية غير صالحة للتطبيق في المجتمعات المتحضرة والمدنية، أسرد الحقائق التالية:

أولاً: لقد طبقت الشريعة الإسلامية في منطقة ممتدة من الهند إلى الأندلس في ظل الحضارة العربية الإسلامية. وظلت سائدة حاكمة قرونا عديدة إلى أن تمكن المستعمر الأوروبي من احتلال معظم الدول العربية والإسلامية. وفي هذا الصدد يقول الدكتور شفيق شحاتة، وهو مصري مسيحي من كبار أساتذة القانون، في كتابه (الاتجاهات التشريعية في قوانين البلاد العربية) ما يلي:
(إن البلاد العربية إبان حضارتها حكمها قانون ينبعث من صميم عقديتها، يتمثل في الشريعة الإسلامية. والشريعة الإسلامية ظلت مطبقة تطبيقا شاملا في مختلف نواحي الحياة العربية، وذلك على مدى قرون طويلة، فإذا أردنا الرجوع بالبلاد العربية إلى مقوماتها الأصيلة، تعين علينا الرجوع إلى هذا الينبوع لنغترف منه أنظمة تتسق وحاجات العصر).
ثانياً: لقد نشرت العديد من الدراسات والأبحاث التي تقارن بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية والتي أثبتت بأسلوب علمي أفضلية الشريعة الإسلامية وأسبقيتها في وضع المبادئ والقواعد القانونية سواء في مجال القانون المدني (العقود والالتزامات أو مجال القانون الجنائي أو مجال القانون الدولي والعلاقات الدولية وغيرها. وكمثال على ذلك أشير إلى كتاب (مصادر الحق في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة بالفقه الغربي) للفقيه القانوني العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، يرحمه الله، وكتاب "التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي" للأستاذ عبد القادر عودة, يرحمه الله, وكتاب (أثر أئمة الفقه الإسلامي في تطوير القانون الدولي والعلاقات الدولية) للدكتور أحمد أبو الوفا، أستاذ القانون الدولي في جامعة القاهرة.
ثالثاً: في عام 1932 انعقد في لاهاي في هولندا مؤتمر القانون المقارن وقرر أن القانون الإسلامي يعتبر مصدرا مستقلا للقانون المقارن وفي سنة1951 عقد المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمرا في كلية الحقوق في جامعة باريس بشأن بحوث في الفقه الإسلامي تحت اسم (أسبوع الفقه الإسلامي) برئاسة مسيومليو (Miliot) أستاذ التشريع الإسلامي في كلية الحقوق في جامعة باريس وحضره عدد كبير من رجال الفقه الإسلامي ورجال القانون. وفي ختام المؤتمر اتخذت القرارات التالية بالإجماع:

1. مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها.
2- اختلاف المذاهب الفقهية الإسلامية ينطوي على ثورة من المفاهيم والمعلومات من الأصول الحقوقية هي مناط الإعجاب. وبها يتمكن الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجياتها.
ثم أوصى المؤتمر بإخراج موسوعة فقهية تعرض المعلومات الحقوقية الإسلامية بالأساليب الحديثة.
رابعاً: توجد الآن موسوعتان للفقه الإسلامي، الأولى أصدرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، يرحمه الله، وتتكون من 21 جزءا. والثانية أصدرتها وزارة الأوقاف في الكويت وتتكون من 35 جزءا. كما يوجد الآن مجمعان للفقه الإسلامي. الأول تابع لرابطة العالم الإسلامي, والثاني تابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي وقد صدر عن هذين المجمعين قرارات عديدة تعالج وتنظم في ضوء مبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية جوانب مختلفة من شؤون الحياة الحديثة سواء كانت اقتصادية أو مالية أو اجتماعية أو طبية أو غير ذلك.
وأخيراً أقول إن مبادئ الدين الإسلامي وشريعته السمحة تدعو إلى الأخذ بأسباب التقدم والعلم والقوة وإقامة العدل وإزالة الظلم كما تدعو إلى المساواة والبر والتعاون والتراحم واحترام حقوق الإنسان، ولكن المتفيهقين والذين في قلوبهم مرض يجحدون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي